حين أقدم السيسي على عزل مرسي استجابة لإرادةٍ شعبيةٍ طالبت بإسقاط مرسي وجماعته، بدأت صورة السيسي تتبلور في الشارع المصري باعتباره "الحارس الأمين" على أمن البلاد وهويتها المدنية، ووحدة ترابها الوطني، حتى استدعيت صورة جمال عبدالناصر للمخيلة الشعبية، وذهب أنصاره لتشبيهه بالبكباشي الزعيم.
ستستمع من أنصار الجنرال وخصومه عشرات الأسباب التي تقارن بين الرجلين، لكن هناك أسئلة ينبغي طرحها، بعد التأكيد على وطنيتهما المشتركة، فـ"ناصر" كان حلمه "القومية العربية"، وفشل بامتياز، وأصبح العرب أكثر تشرذمًا، بغضّ النظر عن الأسباب التي أدت لتدمير "الحلم العربي" وتحوله لمجرد أغنية بلهاء.
ما أحلم به ـ وبالطبع هناك من يؤيد ويعارض ـ هو لملمة جراح هذا البلد أولاً، وحين ننجح في الارتقاء بالأمة المصرية سيسعى الجميع للتقارب معنا، لأن لديك ما تقدمه، وهذا ما فعلته دول الاتحاد الأوروبي بأن بدأت بترسيخ الدولة الوطنية ثم توحيد البنية التحتية للوحدة، بدءًا بالقوانين والنظم السياسية وشبكات المعلومات والاتصالات حتى أصبحت أوروبا قرية واحدة، ومع ذلك ظلت لكل دولة شخصيتها الوطنية، فألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرهم احتفظوا بخصوصيتهم واحترموها، دون الاصطدام بالكيان الأوروبي الجامع النافع.
وبغواية استدعاء ناصر ومقارنته بالسيسي سنرصد أن الشارع المصري (العاطفي) تكتنفه حاليًّا مشاعر متناقضة، فهناك من يدعوه لاستثمار رصيده الهائل جماهيريًّا لاعتلاء عرش مصر، مقابل رؤية أخرى تُذكره بوعوده عدم الترشح لتهيئة المناخ لحكم مدني، لا تشوبه سطوة العسكريتاريا، ولا وصمة الفاشية الإخوانية.
وهنا ينبغي الاعتراف بأن (كاريزما السيسي) ستكون مشكلة لأي رئيس، حتى لو اختاره بنفسه، وهذا مأزق، فترشيحه سيمنح الإخوان وأنصارهم فرصة لإثبات صحّة مزاعمهم عما يسمونه (الانقلاب) وهذا سيخدش مصداقية الجنرال بشكل أو بآخر.
في الشارع وبعيون ملايين المصريين أصبح السيسي "الربّان الوطني الماهر" المؤهل لقيادة سفينة مصر، وسط هذه الأمواج العاتية، سواء من التنظيم الدولي للإخوان ومن يصطفون خلفه، وبعض القوى الإقليمية كدولتي قطر وتركيا، وحركة "حماس" الجناح الفلسطيني المسلح للإخوان، ناهيك عن المواقف الملتبسة للقوى العظمى، وأن مصلحة مصر أهم من رأي هذه الجماعة، أو تلك العاصمة، فكل هذا وأكثر سيقولونه ويرددونه مهما فعلت، فليذهبوا بآرائهم للجحيم.
منذ اللحظة الأولى عرفت يقينًا أن السيسي حقن دماء غزيرة كانت ستراق، أضعاف ما أريقت بالفعل، واستعاد هوية مصر من (لصوص الثورات)، وأن جماعة الإخوان انتحرت سياسيًّا، وتآكلت شعبيتها، وستدخل "مرحلة كمون" وانكماش ربما تمتد عقودًا.
وبحكم خبرات سياسية متراكمة، واستنادًا لحكمة التاريخ وقراءة "المزاج المصري"، يُمكن للمرء أن يزعم رؤيته للصورة من شتى أبعادها: المحلية والإقليمية والدولية، لكن "إلا قليلا"، فنحن نعرف "خريطة الطريق" وتمضي بمسارها المحدد حتى الآن، غير أننا لا نعرف ملامح الدستور المرتقب، ومدى تعبيره عن طموحات كافة أطياف المصريين، ولا تركيبة البرلمان المنتظر، وأمور غيرها من تلك التي يمكن أن توجه الدفة نحو اتجاه لا يزعم أحد معرفته بيقين، بمن في ذلك رجال السلطة أنفسهم.
وهناك تقدير شخصي، مفاده أن الإيمان بفكرة الزعيم الملهم يشوب التحول الديموقراطي، فالصحيح إيماننا بالمؤسسات. وعمومًا لا أرى مخاطر من خيار السيسي وتواتر اسمه في أروقة الشارع السياسي، سوى إقحام الجيش بهذه اللعبة، فإذا قرر السيسي خوض المنافسة نزولاً عند رغبة الجماهير ودعم النخب السياسية والاقتصادية، فعليه إقصاء المؤسسة العسكرية عن الساحة، ويكفيها بالتعاون مع الشرطة حسم المواجهات الدامية مع الإخوان، وسحق جماعات الإرهاب المُسّلحة بسيناء.
إذا حدث ذلك سينجو الجيش من دوامات ولن يتورط في صراعات السياسة، لهذا أرحب بتأكيد السيسي عدم ترشحه للرئاسة في أكثر من موقف، لكنني أظنه ليس قراره الأخير، فالسياسة علمتنا أن كل الاحتمالات واردة.
قصارى القول فإنني أرى أن هناك ملامح مشتركة بين ناصر والسيسي في عدة سمات ومواقف وتحديات، لكنني لست من أنصار نظرية "التاريخ يُعيد نفسه"، فهذه خرافة تصطدم بالمنطق، ولا يعيب ناصر ولا السيسي أن زمنيهما مختلف، وأن ما يتوقع المصريون من السيسي، يختلف كثيرًا عما كان يتوقعه آباؤنا من ناصر، فقد تغير العالم ومعه المنطقة وحتى مصر تغيرت كثيرًا.
وفي كل الأحوال ما زال الوقت مبكرًا على هذا الاستحقاق الخطير، والقادم ما زال في عُهدة الغيب. والله المستعان.