تعد إجابة السؤال أعلاه العمود الفقري لأي تقرير عن أداء القطاعات الصحية، والأساس الذي تبنى عليه سياسات الصحة وخدماتها. إجابة هذا السؤال هي المحدد الرئيس لاعتماد ميزانيات القطاعات الصحية، وبدونها فإن ما يصرف يعد هدرا للمال العام ما لم يتم إثبات أنه قام بتلبية احتياجات المواطنين.
لا وجود للمواطن في جميع تقارير القطاعات الصحية، وعلى رأسها وزارة الصحة، السنوية والموسمية، كتقارير الأعياد والأيام الوطنية. تتصفح هذه التقارير فتجدها ميتة مكتوبة بلغة المقاولات والإنشاءات ولا وجود للمواطن بين طياتها، ولا وجود لرأيه وتقييمه ومدى رضاه. جسد الخدمات الصحية الميت لا بد له من إنعاش بإدخال العامل الإنساني لمعادلة خدماته، بعد أن تم استبدال قلبه الإنساني بقلب خرساني لا يستجيب إلا للغة المال والعقود المليارية.
لا يختلف المواطن السعودي عن مواطني الدول الأخرى فالتركيب التشريحي والفسيولوجي نفسه والعلل المرضية نفسها التي يعاني منها المواطن الكندي والأميركي والبريطاني وغيرهم. هؤلاء جميعا يتشاركون باحتياجات صحية أساسية لا تخفى على تنفيذيي القطاعات الصحية لدينا ممن عاشروا الإنسان السعودي ونظيره حول العالم.
المواطن يريد الأمان الصحي الذي يضمن له حصوله على العلاج من دون مناشدة أو حملة إعلامية، ويضمن له راحة البال من دون شبح القلق من مرض قد يرمي به أو أحد أفراد عائلته أياما بإحدى ممرات الطوارئ. المواطن يريد رفع يديه بالدعاء طلبا للشفاء العاجل لا خوفا من خطأ طبي يهدر دمه بين اللجان الشرعية الصحية، ويريد إعادة ثقته بنظام صحي يتوقف عن تقاذفه بين أقسامه وقطاعاته قبل أن تلقفه يد الموت. المواطن يريد ضمان وصوله لطبيب ومختص ليكتب له وصفة علاجه لا شهادة وفاته، ويريد أن يعامله القطاع الصحي بالاحترام المكفول له بنظام الحكم الأساس، ويريد أن يعامل بلطف وأمل حتى وإن كان لا يرجى شفاؤه. المواطن يريد غرفة تنويم تضمن خصوصية مرضه وتضمن حقه باستخدام دورة مياه من دون الدخول في سباق قضاء حاجة يومي مع المرضى الآخرين. المواطن يريد استمرارية لرعايته الصحية خارج المنشآت الصحية وداخلها، ويريد التنسيق بين متطلبات هذه الاستمرارية. المواطن يريد الحصول على أفضل علاج مثبت بالأدلة والبراهين وبالوقت المناسب، ولا يريد أن يتسوق علاجه في سوق الأطباء ولا يريد أن يتم إخضاعه لعلاج لا يعلم أساسه ولا يريد سلب حقه في اختيار العلاج ونوعه وحتى عدمه.
المواطن يريد نظاما صحيا فعالا يحرره من مطرقة ترهل الخدمات الصحية الحكومية وسندان القطاع الصحي الخاص. المواطن يريد خدمات صحية عادلة لا تقل كثافتها وجودتها كلما بعد مسكنه عن الرياض، ويريد عيادة رعاية أولية داخل حيه تزيل عنه ضغط إيجاد التخصص المناسب لأعراضه، ويريد خدمات صحية طارئة تستجيب لوضعه من دون الحاجة لتقرير إعلامي أو شفاعة معروض. المواطن يريد أن يعلم عن وضعه الصحي وبياناته مقارنة بأفراد المجتمع، ويريد أن يعلم عن نسبة خطورة تعرضه لمرض أو وباء، ويريد أن يعلم كيفية الوقاية منه بالتوعية الصحية وبسهولة الوصول لمختص للإجابة عن تساؤلاته.
احتياجات المواطن الصحية السابقة هي المؤشرات التي يتم تقييم أداء القطاعات الصحية على أساسها، ولذلك فإن غياب المواطن ورأيه عن المشهد الصحي السعودي يحتم إنشاء هيئة وطنية لجودة الخدمات الصحية تتمتع بالشخصية الاعتبارية المستقلة. تقوم هذه الهيئة برصد جودة الخدمات الصحية في المملكة وإصدار التقارير ربع السنوية والسنوية عن كل قطاع صحي وأدائه، اعتمادا على مؤشرات خدمية تتجاوز الفهم القاصر الحالي لجودة الخدمات الصحية، الذي تم اختزاله بمركز سعودي لاعتماد المنشآت الصحية غير مستقل، ولم ينشر تقريرا واحدا منذ إنشائه قبل 8 سنوات.
المواطنون وواضعو سياسات الصحة وتشريعاتها بحاجة ماسة لإنشاء هذه الهيئة بشكل سريع حتى نتجاوز حالة السخط الصحي الحالية، ولعل تجربة الولايات المتحدة الأميركية جديرة بالفحص والاستفادة منها.
لوكالة أبحاث الرعاية الصحية وجودتها بالولايات المتحدة رسالة، وهي تحسين جودة وسلامة وكفاءة وفعالية الرعاية الصحية لجميع الأميركيين، وذلك عن طريق دعم الأبحاث وإصدار التقارير التي تساعد مواطنيهم على اتخاذ قرارات مستنيرة عند اختيار علاجهم وطرقه، وأيضا التقارير التي تحسن من جودة الخدمات الصحية. تقوم الوكالة بإصدار تقارير دورية لفئات ثلاث: للمواطنين، للممارسين الصحيين ولواضعي سياسات الصحة، إضافة لتزويد المهتمين بأدوات بحوث الخدمات الصحية وبياناتها. الوكالة تابعة لوزارة الصحة والخدمات البشرية الأميركية، ومع عدم استقلاليتها لديهم إلا أن تنظيمها ومهامها لا يمكن أن تزهر لدينا إلا كهيئة مستقلة عن وزارة الصحة ومجلس الخدمات الصحية.
أما اللاعب الأكثر فاعلية في تحسين الخدمات الصحية بالولايات المتحدة فهي منظمة خدمة عامة غير ربحية وغير حزبية تحمل اسم منتدى الجودة الوطنية، التي أخذت على عاتقها تحويل نظام الرعاية الصحية لديهم لنظام آمن وعادل بجودة عالية. أحد أهم مهام هذه المنظمة الصحية الأهلية المستقلة هو مراجعة مؤشرات ومعايير الجودة الصحية لإصدار التوصيات للقائمين على الاستراتيجية الوطنية للجودة الصحية كمنسوبي وزارة الصحة والخدمات البشرية وأعضاء الكونجرس الأميركي. العائق الوحيد لنقل تجربة المنتدى للمملكة هو عدم إقرار نظام المؤسسات والجمعيات الأهلية حتى الآن إلا في حال أن تتم الموافقة استثنائيا لإنشاء جمعيات الجودة الصحية الأهلية.
نحن لا نفتقر إلى المال ولا نفتقر إلى العقول القادرة على إصلاح الخدمات الصحية، ولكننا نفتقر إلى رصد ومتابعة إجابة سؤال وحيد: ماذا يريد المواطن من "الصحة"؟