كلمة "شكراً" من أكثر الكلمات تداولاً على المستوى الإنساني، وربما على الصعيد اليومي، إذ تقال أحياناً على أقل الأشياء فعلا، لكن معناها الإنساني يكون غاية في النبل إذا ما خرجت غايةً في الصدق والمحبة.

قد يكون الموقف المنتظر من الكاتب أن يكون في حل من كتابة مقالة كاملة عن شخص غادر منصبه بالأمس القريب، إلا أن شخصية مثله تستحق أكثر من الشكر، لما خدم به وطنه ومجتمعه، فقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بكلمة "شكراً" كبيرة لمعالي الأستاذ الدكتور محمد بن علي العقلا مدير الجامعة الإسلامية سابقاً، على ما قدمه من جهد استغرق ست سنوات من عمره، خدمةً لوطنه وقيادته بإدارته للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والتي حظيت بدعم حكومة خادم الحرمين الشريفين فأصبحت جامعة سعودية عالمية حققت دوراً ملحوظاً في الجانب الأكاديمي والبحث العلمي وخدمة المجتمع، في ظل وجود آلاف الطلاب الذين قدموا للدراسة فيها من أكثر من 160 دولة على الأقل، بالإضافة لآلاف الطلبة السعوديين.

لا بد لكل فارس أن يترجل يوماً، والحياة لن تدوم لأحد منا على نمط واحد بطبيعة الحال، ولكن من أجمل ما في الحياة أن يرحل الإنسان وقد ترك أثراً إيجابياً، سواء في أهله أو زملائه أو طلابه، فضلاً عن تركه محبة كبيرة في قلوب كل من تعامل معهم، وهذا ما حصل.

لقد كان (محمد العقلا) إنساناً في تعامله وإدارته وعلاقاته، غالباً ما يقدم الجانب الإنساني في تعاملاته بلا أحكام مسبقة، واستطاع باعتدال شخصيته وبشاشة محياه وورعه وتواضعه الجم أن يمتلك كل هذه المشاعر الطيبة التي ظهرت في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أجزم أنها لم تظهر فجأة لدى الناس، بل كان لها ما يبررها وكأنها كانت مختزنة لديهم وظهرت في الوقت المناسب، إذ هي الرصيد الذي تركه لديهم، فأظهروها بلا وجل أو تحفظ.

ويندر أن تخرج كلمات الشكر والثناء والمشاعر الصادقة في وقت يغادر فيه المسؤول منصبه، حتى دون أن يقابل هؤلاء الناس ليودعوه.

لكن من عاش في المدينة المنورة يدرك أن "شكراً محمد العقلا" غرسها فور تشرفه بإدارة الجامعة لدى أناس ربما كانوا من عامة المجتمع أو من خاصته، بمختلف شرائحهم وتوجهاتهم وأعمارهم، فبقيت هذه المشاعر التي صنعتها الذكريات في عقولهم وقلوبهم من خلال تعاملهم معه.

ولكن لم يكن الأمر محصوراً على المدينة، بل ربما في كل الأماكن التي وجد بها هذا الرجل، ويكفي المرء أن يقابله مرة واحدة ليخرج بانطباع متميز وهذه حالة نادرة لا تتوفر إلى في شخصيات نادرة أيضاً.

ففي مواقع التواصل الاجتماعي قال الناس كلمة واحدة (شكراً) وحّدت اختلاف مشاربهم الفكرية والاجتماعية والعمرية، وهذا دليل على أن محمد العقلا كان يقف من الجميع على مسافة واحدة قبل وبعد أن ترك منصبه، وأن التحدي الأكبر والاختبار الحقيقي في حياة أي إنسان هو كيف ينظر له الناس، وكيف هي صورته لديهم (قبل) و(بعد) عندها تتجلى الحقائق ويختفي الزيف.

كثيرون جاءوا إلى مناصب دنيا ومتوسطة وعليا وتركوها، لكن لأن أثرهم الإنساني كان محدوداً لم يؤثر بقاؤهم أو رحيلهم كثيراً، بل إن بعضهم يترك أثراً سيئاً يبقى في الأعماق مدى الحياة، وهذه حقيقة لا يمكن أن نتجاهلها.

إن لمسة الوفاء التي حظي بها الدكتور محمد العقلا لم تكن سوى إنسانيته التي انعكست على غيره بفعل جبّلته، لكن أموراً بسيطة تصنع أشياء كبيرة، فقد كان حريصاً أن يمكِّن كل أحد من التواصل معه، سواء كان طالباً أو موظفاً أو أي أحد من خارج الجامعة يمكنه أن يتصل به ويقابله في مكتبه في أي وقت، صحيحٌ أنه بذلك كان يمارس إدارة الباب المفتوح مع الجميع، لكنه أيضاً كان يمارس مبدأ القلب المفتوح، وهذا من أهم الأمور التي تبقي الإنسان في ذاكرة أخيه الإنسان، وتجعل له قدراً في قلوب الناس.. فشكراً لمحمد العقلا.