كلما حدث تجاوز من منسوبي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتم ترديد عبارة، الخطأ الفردي أو التجاوز الفردي، وكأن ما يحدث من تجاوزات منسوبي الدوائر والقطاعات الحكومية الأخرى، هي تجاوزات أو أخطاء جماعية. ومع ذلك، فلنفترض أن ما يحدث من تجاوزات من منسوبي الهيئة هي تجاوزات فردية، إلا أن يتحول بديهيا تكرار التجاوزات الفردية، إلى تجاوزات جماعية، كما تلطف عبارة خطأ فردي، بعبارة الاجتهاد الخاطئ، من أجل تخفيف صدمة التجاوز على المتلقي، وكأن ما يحدث من منسوبي القطاعات الأخرى مقصود، ولا يمكن الشك في عدم "مقصوديته".

عندما تكون في مجلس ما، وتنتقد الأداء الوظيفي لبعض القضاة، ستجد أن معظم الحضور إن لم يكن جميعهم يؤيدون نقدك وقد يزيدون عليه، ولا أحد منهم يتهمك بأنك ضد شرع الله أو تطبيق الشريعة وتسعى للتخلص منها. وكذلك عندما تنتقد أداء بعض أئمة المساجد، ستجد معظمهم يؤيدك أو يزيد، ولا يتهمك أحد بأنك ضد الركن الثاني من أركان الإسلام وتسعى للتخلص منه. وقس على ذلك معظم أداء موظفي الدوائر أو الهيئات أو الوزارات التي تحمل الطابع الديني، فنقدك لأدائهم مسموح، ماعدا في حالة انتقادك لأصغر موظف في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ستجد "أوتوماتيكيا" ودون تردد، أن معظم من حولك يتهمونك بأنك ضد شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنك تسعى لهدم الفضيلة ونشر الفساد في الأرض، أو بأن الهيئة سبق وأن ألقت القبض عليك متلبسا بجريرة أخلاقية نكراء، أو هي تمنعك من أداء المنكرات المحببة لنفسك، ولذلك فأنت حاقد على الجهاز.

مع أنك عندما تنتقد أداء بعض موظفي الشرطة، فالجميع يؤيدك، ولا يتهمك أحد بأنك تسعى لنشر الجريمة والفوضى بين الناس، أو بأن الشرطة سبق وأن ألقت القبض عليك متلبسا بجريمة ما، أو بأن الشرطة تمنعك من ارتكاب جريمة محببة لنفسك، ولذلك فأنت حاقد على الشرطة وتبالغ في نقدك لها. وكذلك في حالة نقدك لأداء بعض المستشفيات، الجميع يؤيدك ولا أحد يتهمك بأنك تحارب الصحة، وتسعى لنشر الأمراض والموت بين الناس.

أي أن في نقدك لأي جهاز حكومي ـ وحتى في حالة المبالغة في ذلك ـ ستجد أن الكل يثني عليك ويحترمك ويجلك، كونك تتصف بالنزاهة والشجاعة والحمية الوطنية، وقد تكتسب ـ كلما بالغت ـ شعبية يحسدك عليها نجوم الغناء والرياضة. إلا في حالة نقدك لأداء أصغر موظف في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تجد نفسك، ودون مقدمات، مدانا كمندس لتخريب المجتمع والقضاء على الإسلام، وتسعى لنشر الفساد بين العباد، أو بأنك صاحب سوابق، وتكون في حالة لا يحسدك عليها عتاة المفسدين.

ولذلك فليس من المستغرب أن تسمع وتشاهد تكرار عبارات: تجاوزات فردية، واجتهادات خاطئة. ومما لا شك فيه أن هذا الجهاز لا غنى عنه لضبط المجتمع، التي يرددها تلقائيا ودون حاجة للتفكير معظم من ترد إلى علمهم حادثة تجاوز من منسوبي الهيئة. ويتم ذلك حتى من قبل كثير من الزميلات الكاتبات والزملاء الكتاب، إذ إن من يتشجع منهم ويخاطر بسمعته وينتقد أداء موظفي الجهاز دون هذه العبارات وديباجة المدح للجهاز وأدائه وأهميته القصوى في المقدمة، فسوف يحكم عليه تلقائيا بالسعي لنشر الفساد والرذيلة أو بأن الهيئة قد ألقت القبض عليه متلبسا بمنكر، أو بأنه مدسوس من الخارج لتخريب وإفساد المجتمع.

هذا نتيجة لقرن تيار ديني متشدد وعريض وجوده وحضور أجندته وسمعته بوجود وسمعة الجهاز نفسه، وكأن الجهاز يعبر عنه ويطبق أفكاره ومفاهيمه الضيقة والمتشددة على الأرض. فكلما تتم محاولة إصلاح وإعادة تشكيل وتنظيم الجهاز، من داخله، لضبط وتحسين أداء أفراده وتطويرها، يبادر المتشددون بشن حملات شعواء، لا هوادة فيها، لإجهاضها. لدرجة شن حملات تشويه لسمعة القيادات الإصلاحية داخل الجهاز، والطعن في ذممهم والتشكيك في نواياهم؛ من أجل الإبقاء على أنظمة الجهاز المترهلة وشديدة القدم، التي تسمح لهم باحتفاظهم باختراق الجهاز والسيطرة عليه وتوظيفه لخدمة أجنداتهم الخاصة. المتشددون يسيطرون على معظم المنابر، ويوجدون بكثافة لا ينافسهم فيها أحد، في القنوات الدينية ووسائل الإعلام الاجتماعي. ولكن كيف استطاعت الجماعات المتشددة، تجنيد كثير من العامة لخدمة أجنداتهم الخاصة، التي منها الدفاع المستميت عن أخطاء منسوبي الهيئة وتبريرها؟! وبأن أي إصلاح للجهاز من داخله، سوف تفقده أهميته ودوره الفاعل في المجتمع؟.

من المعروف أن أهم محركين للناس لدينا هما: الدين، والعرض، والتجاوز في أي منهما قد يحدث صدمة عنيفة لهم، وهذا شيء محمود ومطلوب، ولكن حين يصبح الحرص عليهما، هوسا وتوترا دائمين، بدل أن يكونا باعثين للطمأنينة والسكينة، فإنهما يتحولان لنوع من القلق المستمر الذي يتحول لرهاب نفسي، غير مطلوب أو محمود. الخطاب المتشدد، يتمحور ويتغذى ويجد مشروعيته في النفخ الدائم والمبالغ فيه من فقدان الدين والعرض، لدرجة التشنج، ومع الترديد لهذا الخطاب والمبالغة والزيادة فيه، تم حقن كثير من العامة بفوبيا الخوف على الدين والعرض. وهنا قرن الخطاب المتشدد حراسة الدين والعرض بجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولذلك أعطى الخطاب المتشدد جهاز الهيئة حصانة شعبية وحتى رسمية، يغبطهم عليها القضاء ووزارة الشؤون الإسلامية، وغيرهما من المؤسسات والهيئات الدينية والمدنية والعسكرية. تناقشت مع زميل دكتور وإمام وخطيب جامع، عن حادثة مقتل مواطن ضربا وركلا على أيدي وتحت أرجل منسوبي الهيئة، فقال لي وبكل برودة أعصاب: إن هذا المواطن مفسد ويجوز شرعا قتله!.

وهكذا اختزل سعادة الدكتور وفضيلة الشيخ، صلاحيات وحقوق جميع مؤسسات وأجهزة الدولة القضائية والتشريعية والتنفيذية، ووضعها بين أيدي رجال الحسبة المتجاوزين. ولذلك فليس من المستغرب أن تحيل حملات التشدد ـ وبلمحة بصر ـ ضحايا تجاوزات رجال الهيئة إلى جناة، وتحيل الجناة إلى مجتهدين مجني عليهم، من قبل الإعلام وأعداء الدين ومروجي الفساد. كما قال لي أحد منسوبي جهاز الهيئة: كيف نتعلم ونحن عندما نخطئ بحق مواطن، أكثر ما يقوله لنا، جزاكم الله خيرا، والله يكثّر من أمثالكم؟! وهنالك رأي فقهي يؤكد على أن رجال الحسبة لا يحاسبون. ولذلك فليس من المستغرب عندما تواصلت جريدة "الوطن" مع المتحدث الرسمي للهيئة تركي الشليل؛ لتتأكد منه بأنه ليس هنالك مخطط من بعض عناصر الهيئة لإجهاض قرار حظر المطاردات، فأجاب قائلا: "وحده الرئيس العام الدكتور عبداللطيف آل الشيخ من يملك الإجابة"، أي إنه لم يستطع أن ينفي أو يؤكد الخبر.

الزمن الآن تغير تغيرا جذريا، فما كان بالأمس مجهولا، هو اليوم معلوم ومبحوث عنه ومطالب بحقه. ولذلك فالمسألة تحتاج لشجاعة وحسم لإيقاف مثل هذه التجاوزات، التي ترتكب باسم الدين وشرع الله. ولا نقول إلا رحم الله الشاب ناصر القوس، وعوضه عن شبابه جنات الفردوس، ولطف بشقيقه سعود، وألهم ذويهما الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.