أكاد أختتم هذا المساء بإذن الله قراءة (يوميات) الكاتبة السعودية، سارة مطر عن سيرتها الشخصية كطالبة في جامعة البحرين، تحت العنوان المثير بعاليه الذي يشرح بكل وضوح وصراحة هذا التباين في التقابلية المذهبية في قلب مجتمع واحد.

وأنا هنا أكتب (البحرين) كمثال وأنموذج على سلاسة أو حدية التعايش المذهبي، وما البحرين سوى أنموذج لعشرات المواقع والأماكن على هذه الخريطة المسلمة. وحين سبحت في يوميات سارة مطر عرفت بكل صفاء ونقاء أن العقود الأخيرة الثلاثة من الزمن قد شهدت هذا الشحن المذهبي وهذا الاحتشاد الطائفي البغيض مثلما شهد آلاف الأدبيات المغلفة بخطاب ديني ولكن، ومن السذاجة والغباء: تحت دفع الغطاء السياسي.. الباكورة هي الثورة الإيرانية.

متى عرفت البحرين، أنا، بشكل شخصي؟ كنت طالباً، منتصف الثمانينات من القرن الماضي، عندما تم اختياري لتمثيل طلاب جامعة الملك سعود في لقاء طلابي خليجي استضافته ذات (جامعة البحرين) حيث يوميات سارة مطر بعد ربع قرن من الزمن. وفي الليلة الخامسة والأخيرة من البرنامج كان في الجدول قضاء المساء الأخير في سهرة شعبية أخاذة داخل قرية خارج المنامة، قبل سنوات زرت ذات القرية ووقفت في ذات الساحة (لاسترجاع الذكريات) ثم عرفت بعد ربع قرن أن مساء سهرتي القديم كان داخل قرية شيعية خالصة. كنا في ذات البرنامج الجامعي القديم ما يقرب من ثلاثين طالباً، أمضينا الأسبوعين في ثلاث دول خليجية، وكنا كما يقول أرشيف الأسماء الذي مازلت أحتفظ به لليوم من تقابلية (المذهبين) ولكن: لم نكن يومها نعرف هذا الشحن المذهبي أو الاحتشاد الطائفي مثلما تغص به يوميات طالبة شابة مثل سارة مطر، لم يعد فيما قرأت لها، هذا الفرز الطائفي المذهبي بالقرية أو المقاطعة أو المكان، بل صار بدلالة الاسم وحتى، وياللكارثة، بأماكن الجلوس في ذات القاعة الجامعية الواحدة.

صار من الحقيقة المخجلة أن تكون أروقة الجامعة مسرحاً لهذه اليوميات مثلما كان من الشجاعة لهذه الكاتبة أن تفضح هذه اليوميات وأن يكون عنوان كتابها مطبوعاً بهذه التقابلية التي لم يكن لها قبول قبل ربع قرن من الزمن، فلماذا وصلت مجتمعاتنا إلى هذه المرحلة من الفرز؟

والجواب المباشر البسيط على ذيل السؤال الأخير أن طبائع هذا الفرز وسدنة خطاباته في الجانبين السياسي والديني لا ولن تستوعب في المطلق معادلتين ثابتين من حقائق التاريخ، برغم أن السياسي مثل الديني يدعي الارتكان للتاريخ ويتباهى في كل خطبه بأنه الأولى والأقدر والأفضل في دراسة قصصه واستلهام عبره:

الحقيقة الأولى: التي يتجاهلها هذا الخطاب، أن الإلغاء والمصادرة والنفي لفصيل أو طريقة أو مذهب ليست سوى مجرد آمال وأمانٍ عكس صيرورة التاريخ. وبالعكس، فإن أوراق التاريخ نفسه تبرهن أن الطائفة أو المذهب تكون أقوى وأكثر تماسكاً وانتشاراً إذا ما شعرت لمجرد الإحساس أنها تحت خطاب الإلغاء والنفي والمصادرة. وخذ في المثال التقريبي أن حركة مثل (الرؤوس الحليقة البيضاء) العنصرية في القارة الأوروبية قد انتشرت من مجرد بضعة أشخاص إلى حركة أوروبية بالملايين اليوم، وكما تقول المفوضية الاجتماعية للاتحاد الأوروبي مساء البارحة: لأننا أخطأنا في مقاومتهم بالإلغاء والتمييز ومحاولات المطاردة والكبت القانوني الذي قاد إلى تعاطف هائل مع رموز الحركة ثم تالياً إلى الانخراط في التنظيم حتى تعاظمت فكرة الانتماء لهذه الحركة.

الحقيقة الثانية التالية التي يتجاهلها هذا الخطاب الإلغائي أن هذا الشرق الأدنى (كعالم قديم) هو الحاضن الأساس والمنبت الموئل لكل الأديان وشتى الطرائق والمذاهب. لا يمكن لخطاب قصير أن يلغي أو يصادر كل قرون التاريخ وحقائقه وبدهياته: وذات التاريخ يقول بكل جلاء ووضوح ما يلي: في دائرة قصيرة جداً من مساحة هذا الكون الفسيح نزلت هذه الأديان السماوية الثلاثة في دائرة لا يزيد قطرها عن ألف كيلومتر، كان كل الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلوات والتسليم، وفي هذه الدائرة بالتحديد بدأت كل المذاهب التابعة لهذه الأديان في المرحلة ما بين التفسير للدين وبين التأويل. في دائرة صغيرة بألف كيلومتر من مساحة هذا الكون، بدأ الانشطار المذهبي اليهودي إلى فصيلين مثلما ابتدأت في هذه المساحة أيضاً بذرة المذاهب المسيحية الأربعة الرئيسة التي تفرعت لاحقاً إلى فصائل وكنائس وطرق مختلفة. وفي ذات القياس التاريخي البدهي ابتدأت الفصائل والمذاهب الإسلامية رحلة حقائق التاريخ بدءاً، من الجهمية ثم القدرية ومن بعد الأشاعرة والمعتزلة وصولاً إلى التباين المذهبي الواضح بين لونين متمايزين، ومن ثم إلى انقسامات ذات المذهب الواحد إلى فصول وطرائق. هذا هو (الشرق) وهذه هي حقائقه التاريخية... انتهت المساحة.