لا أحد منا ينكر دور الأغنية الوطنية في تربية الوجدان الجمعي، ولا أحد فينا يتناسى أو ينسى أناشيد الصباح في طوابير المدارس تحت لواء العلم كل يوم. وكيف صرنا وقوفا تطال رقابنا ذرا أبها حينما غنى طلال مداح أغنيته الشهيرة "شفت أبها.." بالرغم من محليتها جدا إلا أنها تمس شغاف الوجدان، فطالما تغنت بالوطن، لكنه يفصح عن الأغنية الوطنية في أغنية "أبشري يا بلادي" في مطلع السبعينات، وهي من كلمات وألحان الفنان طارق عبدالحكيم ـ رحمه الله ـ فيقول: "أبشري أبشري يا بلادي العزيزة. أبشري بطول الأمان.. أبشري أبشري خيرك وعزك دايما طول الزمان..إلى أن يقول: أبشري بنهضة كبيرة.. تعم أرجاء الجزيرة. بكره تزداد المصانع .. بكره نزرع كل ديره"..

هذه الأغنية كانت تهز الوجدان في زمانها ليس لكلماتها البسيطة فحسب، وإنما اتخذ الملحن الإيقاعات الموروثة من صميم الفلكلور الشعبي المتمثل في إيقاع العرضة، معتمدا على آلات موسيقية عربية أهمها العود حرصا منه ـ رحمه الله ـ على شخصية العود نفسه. وكان المونتاج حينها مناسبا لإمكانات ذلك العصر. وعلى هذه الأغنية وغيرها تربينا وتربى جيلنا على شحذ الوجدان وتربيته على حب الوطن، فمقطع من أغنية وطنية يؤتي نتاجه أكثر مما تحققه المؤتمرات والخطب المنبرية. لأن الفن يتسرب إلى الوجدان ليطلق عليه علماء النفس "التسرب الانفعالي".

ومما لا شك فيه أن هناك مجهودات في تواجد الأغنية الوطنية من كبار فنانينا اليوم مثل: "يا سلامي عليكم يا السعودية" لراشد الماجد، و"دام عز المملكة" لمحمد عبده، وأنا سعودي "راشد الماجد"، و"كلي خليجي" لحسين الجسمي؛ وهي مشاركات فعالة في تنمية الوعي الوجداني، في وقت تحلل فيه أدق تفاصيل الأغنية الوطنية وتبنى عليها مفاهيم! فما هو حال الأغنية الوطنية في هذه الظروف، والتي يجب فيها أن تصدح الحناجر عاليا بقيمة الوطن وعزه وحبه والتفاني في سبيله؟

الأغنية الوطنية أكبر الأسلحة في مقاومة النيل من ثقافة الوطن وعزه، ضد من يحاول تهميشه أو تشويهه. ولنا أن نذكر ما فعلته أغنية "بلادي بلادي" للموسيقار العالمي سيد درويش، وهي من كلمات محمد يونس القاضي عن كلمات قالها الزعيم الراحل مصطفى كامل أثناء الاحتلال الإنجليزي لمصر، والتي غناها سيد درويش آنذاك وظلت حتى يومنا هذا، حيث أصبحت النشيد الوطني لجمهورية مصر العربية حالياً. ومما لا شك فيه أن الوطن العربي يتعرض لعصف شديد ونحتاج إلى المزيد من هذا النوع من النشيد الوطني ليس للطرب وهدهدة الرؤوس، وإنما لإيقاظ الوعي الجمعي والوجداني للشعوب التي قد تركن أو تستكين في انتظار ما هو آت.

في أزمة مصر وما تمر به من اضطرابات ظهرت بوادر الأغنية الوطنية في أوبريت "حب مصر" فقدمتها أكاديمية المستقبل مع نخبة من الفنانين العرب منهم حسين الجسمي ومحمد فؤاد ومدحت صالح وآمال ماهر وغيرهم من خيرة الفنانين العرب والمصريين، وكان ذلك قبل ثورة 30 يونيه 2013، فألهبت حماس الشعب والجيش وكل من استمع إليها على حد سواء.

ثم يأتي أوبريت "تسلم الأيادي" وهو من كلمات وألحان الفنان مصطفى كامل ومن أداء مجموعة من كبار الفنانين المصريين. هذا الأوبريت عمل بمقدار كثير من الندوات والمؤتمرات والمنابر ووسائل الإعلام. فلم يبق منزل أو شارع أو محفل إلا ورفع صوت أوبريت "تسلم الأيادي"، حتى إن التاكسيات والعربات والمدارس في أول يوم للدراسة تفتح مكبرات الصوت عاليا في شوارع مصر وفي جل مدنها وقراها بهذا الأوبريت، فتحول من صوت مجموعة فنانين إلى صوت الشعب داخل مصر وخارجها؛ حتى إن المتظاهرين في أنحاء العالم يفتحون مكبرات الصوت عاليا بأوبريت "تسلم الأيادي" ليعلنوا تأييدهم لجيشهم والالتحام معه! فأصبح الأوبريت صوتا يدوي في المحافل الدولية ليعلن تأييده لجيشه ووقوفه خلفه مؤيدا ومناصرا. ومن هنا تطور دور الأغنية الوطنية من كونها صوت الفن حتى أصبحت ممهورة بصوت الشعب، وهو ما أحدثه أوبريت "تسلم الأيادي"!

كان مصطفى كامل ذكيا وحرفيا حينما اختار الإيقاع الشعبي لهذا الأوبريت كما اختار طارق عبدالحكيم السابق لعصره إيقاعات العرضة في "أبشري يا بلادي"! فاختار كامل ثيمة شعبية سريعة الإيقاع لكي يواكب هذا الأوبريت الثورة الشعبية التي خرجت من النجوع والقرى والحارات والأزقة، ولم يجنح إلى تدوين "موتيف" عالمي وآلات غربية لكي يحرص على الوجدان الجمعي الذي لا يمس إلا الموروث الشعبي المتأصل في الوجدان نفسه!

ومن هنا ندرك هذا الدور الذي يلعبه الفن ليس في إيقاظ الوعي بقدر إشعال وقد الحماس والحب والتفاني والوطنية بقدر كبير عن طريق ما سمى بـ"التسرب الانفعالي والانزلاق الوجداني". ثم تأتي أغنية "خلوا لي وطن" للفنان التونسي لطفي بوشناق لتواكب ثورة تونس والتي أبكته وأبكت جمهوره أثناء الحفل، إلا أن الفرق يأتي واضحا للغاية بين أوبريت "تسلم الأيادي" وأغنية "خلو لي وطن" بالرغم من جودة كل منهما وبالرغم من تألق أداء بوشناق وصوته الجهوري وإحساسه الذي اعتصره واعتصر جمهوره معه؛ ولكن لا تقاس الأغنية الوطنية بمدى نجاحها كفن بمقدار نجاح رسالتها، فاتسمت أغنية بوشناق كثيرا بالانكسار غير المحبب في مثل هذه الظروف، بالرغم من جودة الأغنية حسب التقنية والصوت، تقول بعض كلماتها: "أنا مواطن وحاير".. إلى قوله: "أنا حلمي في كلمة واحدة أن يظل عندي وطن... خذوا المناصب والمكاسب، لكن خلوا لي وطن..".

ليس من طبيعة العربي الانكسار والانبطاح أو التسليم، فقد غلب اللون البكائي على أغنية بوشناق، والبكاء لا يجوز في الأغنية الوطنية - خاصة وقت الشدائد - كما قال أفلاطون في "الجمهورية الفاضلة"، لأن هذا التسرب الوجداني سينتقل بدوره إلى الشعب الذي يجب أن يظل شامخا كما عهدناه عصيا لا ينثني كحال الرجل العربي عبر تاريخه. فكان لأوبريت "تسلم الأيادي" - والذي يتمتع بأركان الأغنية الوطنية إن جاز التعبير بالرغم من لونها الشعبي كما أسلفنا - دور فاعل شديد التأثير، لأن الرسالة والتسرب للوجدان أهم معالم هذا اللون والذي اتسم بالحماس والقوة التي دعمها الحس العالي لأداء الفنانين، وأيضا رؤية المخرج المشحونة بالقوة المعتمد على لقطات من بطولات الجيش.