الجودة كلمة ساحرة لمفهوم عصري أصبح هدفاً استراتيجياً لكل الأعمال والمنجزات. وأصبح أي عمل يخلو من الجودة لا فائدة منه بل هو مضيعة للوقت والجهد والمال. وأصبحت الجودة طاغية على راسمي الاستراتيجيات ومعدي الخطط والمنفذين. وظهرت في هذا العصر نظريات وطرق ومعاهد تدريب وأقسام جامعات تركز على كيفية الحصول على الجودة. نعرف ذلك تماماً، بل نعرف أيضاً أن المؤسسات والشركات التي حققت نجاحات كبيرة تصرف مبالغ طائلة وبشكل مستمر على بحوث ودراسات الجودة وكيفية تحققها في تلك المؤسسات. كل ذلك شيء جميل ومطلوب، إلا أن الجودة وبال وشر عندما تكون مبرراً لتأخير العمل وتعطل الإنجاز. لعل بعضكم قد مر بتجربة واحدة على الأقل إن لم تكن عدة تجارب يذهب فيها ليسأل عن مصلحة له أو ينتظر ظهور قرار أو نظام معين له علاقة به ويجد أن الجواب هو ما زال الموضوع يدرس ولا بد أن يأخذ وقته حتى يحقق الجودة المنتظرة منه. وهنا ننسى أو نتناسى أننا نعيش عصر السرعة "velocity" كما عبر عنها بل جيتس في كتابه: "Doing Business at the Speed of Thought" الذي يقول مخاطباً المسؤولين: "يجب أن تعرف أنك بنيت نظاماً عصبياً رقمياً متميزاً فقط عندما يتم تدفق المعلومات إلى مؤسستك بشكل سلس وسهل وسريع وطبيعي، كما تتدفق الأفكار في العقل البشري، وعندما يتم استخدام التكنولوجيا لتمكين فرق العمل من أداء مهامهم بشكل فاعل وعاجل، وعندما يتم التركيز على تلك المهام من قبل جميع العاملين في المؤسسة كما لو كانوا فرداً واحداً". العمل الذي ينجز بشكل بطيء أو ينجز متأخرا لا يحقق الأهداف حتى لو أنجز بشكل جيد. ثم إن سرعة الإنجاز جزء من الجودة أو معيار من معاييرها ولا يجب عند تأخير العمل الاحتجاج بالجودة. يقول جون نيسبت في كتابه: التحول الكبير "Megatrend": "من السخف أن لا نعيش العصر الرقمي في العصر الرقمي". والعصر الرقمي يتطلب التخلص من كل أدوات البيروقراطية ومنها استخدام الورق في التعاملات في ظل تألق التقنية هذا العصر. يقول بيل جيتس في هذا الشأن: "في عام 1996 قررت الوقوف على الطريقة التي تتعامل بها ميكروسوفت، التي تعتبر من أكبر مؤيدي استبدال النماذج الورقية بالنماذج الإلكترونية، ووجدت أن ميكروسوفت ما زالت تتعامل بالورق. دهشت عندما تبين لي أننا في ذلك العام طبعنا 350000 ورقة "تقرير المبيعات". وطلبت تزويدي بصورة من كل نموذج ورقي في الشركة ووصل إلى مكتبي ملزمة تحتوي على المئات والمئات من النماذج".. ويضيف: "يعد استهلاك الورق عَرَضا لمشكلة كبيرة تعاني منها أي موسسة لأنه يكشف تعقيدات الإجراءات الإدارية وطول الوقت الذي تستنفده تلك الإجراءات. وقمنا بتأسيس شبكة اتصال داخلية بدلاً من الاتصال الورقي بين إدارات الشركة، وأظهر لنا ذلك الإجراء نتائج مذهلة، وخفضنا عدد النماذج الورقية مما يزيد على الألف بقليل إلى 60 نموذجاً في الشركة بكامل فروعها". ويقترح في هذا الصدد أن تبدأ أي مؤسسة في البداية باستخدام الأدوات الرقمية للتخلص من الورق في المهام الوحيدة والصغيرة. هنا يتم التدرج في الحفاظ على كلا الهدفين الجودة والسرعة. في أي مؤسسة أو عمل يقف أي مسؤول عند ما أسماه جلادويل "اللحظة الحرجة" في كتابه اللحظة الحرجة:Tipping" Point"، وذلك عندما يقرر استخدام أدوات التقنية أو لا يستخدمها. عندما يقرر التقليل من الاستخدام الورقي أو لا يقرر. المسؤول يقف عند لحظة حرجة ينطلق منها إلى قرار مصيري يحدد بالضبط مدى الذهاب لتحقيق الأهداف من عدمه. هذه اللحظة حرجة كما يقول جلادويل لإنها مفترق طرق. الكثير من المسؤولين يصل إلى اللحظة الحرجة ويتعداها دون علم منه أنه للتو مر بلحظة حرجة تقرر فيها نجاح المؤسسة من عدمه. بعض المسؤولين لا يشعر أنه يعيش العصر الرقمي، بعبارة أخرى يعيش خارج العصر الرقمي. يبرر تأخير العمل بمزيد من الدراسة والتأكد من تحقق الجودة، في الوقت الذي يعتبر ذلك المسؤول هو المشكلة. المشكلة في فكره الذي يعيش به خارج العصر. قليل من أدوات التقنية ومزيد من الاستخدام الورقي.. مزيد من الإجراءات البيروقراطية، هذا المسؤول يعتبر جزءا من المشكلة ببساطة لأنه مر باللحظة الحرجة ولم ينتبه لها وأخذ الطريق الخطأ، والطامة الكبرى شعوره بأنه على الطريق الصحيح، حتى مع إحساسه بمعاناة المتضررين من مؤسسته، فهو يظن أنهم لا يقدرون الإنجازات العظيمة التي تقوم بها مؤسسته والمتمثلة في تأخير العمل وبطء الإنجاز وتذمر الناس! في هذا العصر لم تعد الحجج الواهية مقنعة لأحد، وأولها بطء الإنجاز بحجة الجودة. يحز في نفوسنا ألا يكون وطننا منافساً في ظل ما يتمتع به من مقومات بسبب تفكير مسؤول جاهل، أو لا يعرف أنه السبب الأول في تدني مستوى الإنجاز في مؤسسته. ليس هناك خيار على الإطلاق في أن نحقق الجودة أولاً ومعها سرعة الإنجاز جنباً إلى جنب في مؤسساتنا. ليس لنا العذر ولا لمسؤولينا في عدم تحقق ذلك. المسؤول الحقيقي هو الذي يعرف مكامن إخفاقاته ويعترف بها. ذلك المسؤول الذي يعرف متى يمر باللحظة الحرجة وكيف ينطلق منها إلى الطريق الصحيح. ذلك المسؤول الذي يأخذ قدراً من المخاطر ويكون قادراً على المواجهة بطريقة سلسة. والذي يعرف أن التجديد والتطوير يتطلب المواجهة ويكون ذكياً فيها ويكسب جولاتها.

قال لي أحد الخبراء عندما شرعنا في تطوير أحد مرافقنا: "إن المواجهة تقتضي أن نعرف أن أي تطوير لا بد أن يمر بأربع مراحل: الرفض، المقاومة، القبول، ثم التبني.. وليس من السهل الانتقال من مرحلة إلى أخرى لكن لا بد من إعطاء كل مرحلة وقتها ولا بد من المقاومة في الطريق لكن المقاومة قد تؤدي إلى الهزيمة إذا لم تأخذ وقتها". المسؤول الناجح يعرف أن هناك معادلات صعبة في الإنجاز لا بد من الموازنة بينها. والمسؤول الناجح هو الذي ينجح في النهاية رغم الصعوبات والإخفاقات والمواجهات التي تعرض لها وفي نفس الوقت بتكاليف قليلة نتيجة الصعوبات والإخفاقات والمواجهات.

لا عذر لمن يحتج بالجودة على حساب سرعة الإنجاز. فلا بد من تحقق كليهما.