يستوقفني بين الفينة والأخرى الصديق الأديب حسين بافقيه حين يقتطف لنا زهورا من كتب التراث العربي، وينظم عقودا من فرائد ما حوته مصنفات الأجداد يرحمهم الله، فتارة يغرد بمقولة لابن عبد ربه وأخرى لابن قتيبة، ثم لا يلبث أن يعلّق على سياق مبهر لابن جنّي العالم اللغوي الفذّ، والواقع أننا كنا أيام الطلب – وأيامنا كلها طلب - في الجامعة نتزود من تلكم المراجع وأمهات الكتب فنجد فيها مستراحا ومتعة ناهيك عما تكتنز به من علوم ومعارف، ولقد ألفينا أثر ذلك في تقويم ألسنتنا واستنطاق مهارات اللغة فينا كتابة وتحدثا واستماعا وتذوقا، أذكر هذا داعيا لأساتذتنا الأجلاء آنذاك بخير الجزاء ومعترفا ومدينا لهم بجميل الصنع على الرغم مما كنا نعانيه في سبيل تحصيل تلكم المعارف من نصب وكدّ نشكرهما اليوم ولا نكفرهما.

لقد وفر لنا ذلكم التلقي الممنهج من كتب التراث – وما يزال – جسرا معرفيا مع ماضينا العلمي الزاهر فكان لنا ولكل من عكف عليه وانبرى له عونا بعد الله على رفع حصيلتنا اللغوية، وإثراء قاموسنا اللفظي، وإنماء دخلنا المعرفي المؤصل، فمن قرأ الأمالي لأبي عليّ القالي، أو أدب الكاتب لابن قتيبة أو البيان والتبيين للجاحظ أو غيرها مما يضارعها فلن يخرج دون مؤونة ثرة، وستكون جعبته ملأى بنجوم متلألئة من جميل القول وراسخ المعنى وأكيد النفع، أما اليوم وما أدراك ما يحدث اليوم؟ فقطيعة معرفية ثقافية مع ماضينا المدوّن، نلمسها في أبنائنا وبناتنا وكثير من معلميهم ومعلماتهم، خاصة أولئك المعنيين بتدريس اللغة العربية وفنونها، ولا ملامة إذ انغمسوا في أمواج عصر التقانة، واعتلوا أثباج نتاجه من الأجهزة التي وفرت الوقت والجهد غير أنها في المقابل عطلت قدرات أخرى أولها التأمل والاكتساب وليس آخرها القراءة النافذة الممتعة، فأي جيل سينشأ وهو منقطع عن تاريخه ومنعتق عن أصله وجوهره مهما كانت التحولات أو مغريات المرحلة ونداءاتها المتوالية؟

ولا أريد أن يُفهم أني من دعاة العودة والرجوع فما أتيح لنا اليوم من وسائل الحياة الميسرة ووسائط التعلم السريع كل ذلكم نافع وجدير بالحظوة والعناية، ما أعنيه هو ألا ننسى جهودا مباركة أسست لعصر المعرفة فنصلهم حبا وانتماء وتقديرا ثم نعود إلى ما نحن فيه من تسارع لا نحيد عن المسار، ترى هل تطاير الغبار من هذا المقال؟ نعم ولكنه غبار نفضناه عن درر جلبها الأجداد فلنحافظ عليها صقيلة لامعة كما أرادوا.