يقول فرانسوا بيسوا في كتابه (اللاطمأنينة): "عجباً لأولئك الذين يضيعون أعمارهم في جمع مؤهلات النجاح، لماذا لم يتجهوا إلى النجاح مباشرة؟!" كنت أحمل هذه العبارة معي أينما ذهبت لألقيها في أذن كل من ألقاه، دون تمييز، من ذلك الكهل الأمي إلى الأكاديمي المتبتل بحرم الجامعة. أقول كنت ألقيها على أسماعهم لعلي أسمع تفسيرا يرضي عقلي، ففرانسوا بيسوا فيلسوف برتغالي لا يعنيه سوى عمق الأشياء لمن أراد الفهم، يلقي كلماته الشعرية لا تلاعبا باللغة لمجرد اللعب، كأصحاب مفهوم الفن للفن، ولكنه يقول كلماته بحثا عن المعنى الأعمق لا اللعبة اللغوية الأجمل، وهذا هو الفارق بين لاعب السيرك اللغوي (الشاعر البهلوان)، والشاعر الفيلسوف.
بعد فترة التقيت شابا في أوائل الثلاثين من عمره، فوجئت به مشغولا بحقيبته الصغيرة، وأوراق حول حساباته المالية، وتحويل بعض المبالغ لمكتب تخليص في الصين لمعداته وآلياته، ثم بدأ يحكي لي أزمته في ترقية درجته لدى وزارة التجارة في تحديد المناقصات المؤهل لاستلامها بموجب تصنيف تحدده الأنظمة، وعرض أوراقا تؤكد تصنيفه ضمن المستحقين لمناقصات الخمسين مليونا، فوجئت أكثر بأوراق رواتب العاملين لديه في مؤسسته والمصنفين إلى ذوي المستحقات من خمسة آلاف فأقل والخمسة آلاف فأعلى، عندها سألته عن تركة والده فأخبرني أن والده ما زال على قيد الحياة، فسمحت لنفسي بالاستقصاء أكثر لما لمسته من رغبة لديه في البوح أكثر، فأخبرني أن والده ما زال حيا وبصحة جيدة ويشرف على أعماله المستقلة بنفسه. أخبرني أن والده رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولهذا لم يستطع تطوير أعماله أكثر، بينما هو أكثر تعليما من والده، إذ إنه حاصل على الثانوية العامة منذ سنوات، وإنه بسبب (تعليمه العالي!! كما يقول) أصبح أكثر قدرة من والده على تطوير وتوسيع عمله، فقد حصل قبل ما يقرب من خمسة عشر عاما عن طريق شفاعة والدته لدى والده على إقراضه مبلغا بسيطا يسمح له باستخراج سجل تجاري فقط. يقول: وبحكم أني كنت مع والدي في مشاريع مقاولاته التي لم تتجاوز قريتنا البسيطة، فقد تعلمت الكثير عن المقاولات والعمال والمهندسين. وبمرور السنين استطعت أن أصل إلى هذا المستوى الذي جعل والدي يعترف لي أمام جماعتنا بأني تجاوزته وتفوقت عليه. ختمت تساؤلاتي وإنصاتي بسؤال شخصي جدا إذ قلت له : هل أنت تصنف نفسك تاجرا أم رجل أعمال؟ ولقد فاجأني بالإجابة إذ قال: والله من هو مشغول مثلي بالعمال والمشاريع ومطاردة صرف المناقصات ومراقبة عدم الوقوع في الشروط الجزائية للعقود الحكومية لن تفرق معه، سواء رأيته متسببا أو تاجرا أو رجل أعمال. ثم استدرك بقوله: لا يعني امتلاكي لبضعة ملايين أني رجل أعمال، فرجال الأعمال الحقيقيون ـ كما علمني والدي ـ هم رجال قامت بهم أعمالهم وعرقهم ولم تقم بهم التعويضات الحكومية، أو نفوذهم المبطن في المناقصات من خلال معارفهم أو عملائهم داخل الأجهزة الحكومية. وهؤلاء رجال أنضجتهم التجربة ولا تهزهم تقلبات السوق، أو سقوط النفوذ، وأخيرا ليسوا في سني المبتدئة.
انتهى حديثه معي لأذهب مفكرا في حالته، وكيف سيكون في عمر الخمسين والستين وخصوصا بعد تفاخره بأنه تفوق على والده في إدارة أعماله التجارية، ولمّا يصل الأربعين، لأنه كما يقول "صاحب تعليم عالٍ .. ثانوية عامة!" وهو صادق مقارنة بوالده الأمي. تذكرت كل ذلك ثم تذكرت مقالاً كتبه أحد الأصدقاء الأكاديميين في إحدى الصحف يتذمر فيه من ضعف رواتب أساتذة الجامعة.. المضحك والمفارق في الموضوع أن هذا الصديق يحمل دكتوراه في إدارة الأعمال من أرقى الجامعات الغربية، لكن مؤهلاته التي أفنى عمره في جمعها لم تصنعه في أقصى الأحوال سوى براغماتيا يتوسل العمل لدى أمثال هذا الشاب برواتب مقطوعة تحت مسمى مستشار أو مدير تنفيذي كخارج دوام بعد انتهاء محاضراته في الجامعة، أو تحت بند الإعارة.
عندها فقط تذكرت عبارة فرانسوا بيسوا إذ قال "عجبا لأولئك الذين ضيعوا أعمارهم في جمع مؤهلات النجاح لماذا لم يتجهوا إلى النجاح مباشرة؟" إنها عبارة تجعلنا نسخر بكل دورات تطوير الذات/ تزييف الذات، وكل محاضرات الهندسة النفسية الوعظية، وبكل الأوراق التي تصرفها لنا مراكز التعليم من أي نوع، لنصل في النهاية إلى الكتاب الرائع لكارل بوبر (الحياة بأسرها حلول لمشاكل) والتي ينسف فيها كل مفاهيم علم الأفكار التي من خلالها نتوهم فهم الحياة.
بدأت أقرأ الناس بشكل آخر، فعندما يسألني أحدهم عن أشخاص أعرفهم أقول له: هذا حاصل على الكفاءة المتوسطة في مدرسة الحياة ، رغم أنه يحمل البكالوريا ، وذاك نال مرتبة الشرف في مدرسة الحياة ، رغم أنه انسحب بعد سنتين في الجامعة ، وكلنا في داخله هذا السؤال: من يملك الفرق؟ من يعرف السر؟ بدءا بالمتنبي وانتهاء ببيل جيتس، لأختم مقالي بكلمات شارل بودلير "... الأمم لا تنجب العظماء إلا مرغمة، إذن لن يكون الرجل عظيما إلا إذا انتصر على أمته جمعاء..." حاولوا أن تنتصروا فيما تريدونه أنتم لأنفسكم لا ما تقرره لكم مجاميع الهندسة النفسية، ووعاظ تطوير الذات".
أقصد ما تريدونه من أنفسكم أنتم.. هناك.. بعد تجاوز ما يحكيه إريك فروم في كتابه (الخوف من الحرية) وسيصفق لكم آنذاك حتى جلمود الصخر الذي كان سبب نزفكم يوماً ما، وستثبتون لاختبارات القياس أنه لا يوجد علم يستطيع تفسير معجزة الإنسان، فالعلوم مجرد سلوى، لتتحول إلى حرفة بيد مسلعي القيم الإنسانية، فبعد أن يلد الفلاسفة شبيه (بيجاسوس) حصانا بجناحين ليطير به الناس، يحمل عليه المحترفون بعد أن يقطعوا جناحيه، ثم يبيعونه كفرس معطل يسعد به الدهماء بانتظار بردعة الحرية.