ما الذي يجمع بين النبي "داود" عليه السلام وقصة صراعه مع "جالوت" الجبار من جهة، والكاتب الإنجليزي/ الكندي مالكوم غلادويل "Malcolm Gladwell" من جهة أخرى؟ إنه ببساطة كتابٌ جديدٌ يصدر بعد أيام، أي في الأول من أكتوبر القادم، تحت عنوان اجتهدت في ترجمته: "داود وجالوت: المستضعفون، غير الأسوياء، وفن محاربة العمالقة".. بهذا الكتاب غريب العنوان يعود الكاتب المبدع "غلادويل" إلى ساحة النشر من جديد، بعد أكثر من أربع سنوات على إصدار آخر كتبه، رغم أنه يعتبر من المؤلفين الذين يبعيون كتبهم بأسمائهم قبل محتوى كتبهم، حيث سبق أن أصدر أربعة كتب، تصدرت كلها قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن ترجمتها إلى أغلب اللغات الحيّة، لكن أكثر ما يميز "غلادويل" هو انتماؤه إلى فريق تحرير المجلة الشهيرة "النيويوركر"، وقبلها مراسلاً للعلوم والأعمال في صحيفة "واشنطن بوست"، مما جعله يرتكز على ثقافة رصينة وإرثٍ مهني عميق.
كانت بذرة هذا الكتاب المثير مقالةً قصيرة للمؤلف، نشرت في عدد التاسع من مايو 2013 بمجلة "النيويوركر"، لكن ردود الفعل على المقالة؛ جعلته يعمل بعمقٍ على الفكرة الأساسية ويطوّرها، ويربطها بمزيدٍ من الشواهد التاريخية والأحداث المعاصرة، حتى خرجت في كتاب مستقل، من المتوقع أن يقفز إلى رأس قوائم الكتب الأكثر انتشاراً خلال أسابيع قليلة، خصوصاً وأن فكرته مختلفة، ذلك أنه يعيد قراءة التاريخ بطريقة جديدة، لكنه يدعمها برؤى حديثة ومقنعة من علم النفس.
تنطلق فكرة الكتاب من القدرة الكامنة لدى "المهمّشين" لكسر القواعد التي نعتقد أن الحياة تسير بها أمامنا، بينما واقع نواميس الحياة غير ذلك، ويتناول كل فصلٍ من الكتاب قصة شخصية محددة، شهيرة أو غير معروفة، ذكياً أو عبقرياً، يواجه تحدياً خارجياً صعباً، ويجبر على الاستجابة، مما يجعله أسير حيرة داخلية متضاربة، هل يجب عليه أن يتعامل معه بنفس الأساليب والقواعد المتداولة؟ أم يتبع حدسه؟ هل يقاتل بعزيمة؟ أم يستسلم ويتراجع؟ أو حتى يغفر لمن قاتله! وليس هناك من قصة رمزية تصلح كمنطلق للكتاب بأكمله سوى القصة الأسطورية التي حدثت قبل آلاف السنين على أرض فلسطين، حينما خاض راعي الأغنام الصبي "داود" قتالاً غير متكافئ مع الجبار العملاق "جالوت"، قبلها بدقائق وحينما تقابل الجيش الضخم للملك "جالوت" بالجيش الضعيف للملك "طالوت"، والذي كان قد تناقص – أيضاً - بعد حادثة شربهم من ماء النهر، هالهم ما شاهدوه من ضخامة جيش عدوهم، وشعروا أنهم أضعف منهم بمراحل مختلفة، ثم برز "جالوت" وهو مثقل بدروعه الحديدية وأسلحته الثلاثة، ثم طلب أحداً يبارزه، خاف جنود "طالوت" كلهم، وتلفّتوا حولهم وزاد خوفهم كونهم الأضعف في هذا الصراع الواضح نتيجته، ثم فجأة ظهر الصغير "داود"، ولم يكن يحمل سوى درعه الصغير، وبضع صخرات جمعها على الطريق، وكان المتوقع أن يهزم شر هزيمة، أو هذا ما كان يتوقعه الجميع، لكنه انتصر بشكل لا يصدق، وهو ما ورد في القرآن الكريم، في قوله تعالى: (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) البقرة251.
يعزو الكاتب انتصار "داود" إلى أسباب كثيرة، ليس أهمها سوى أن هذا الصبي الصغير كان مجبراً على المواجهة، واتخذ قراره بضرورة الفوز، لأن الهزيمة تعني القبر مباشرة، فضلاً عن كونه كان مستعداً بدنياً، لكنه لا يمتلك أسلحة خصمه، فعمل على مقاتلته بأسلوب مختلف، حينما رمى الثلاث صخرات على رأسه، وكانت هي الضربة القاضية، كما تقول الإسرائيليات، هذا النجاح تعضده النتيجة التي سبق أن خرج بها الباحث السياسي "إيفان توفت" الذي قام بتحليل الحروب التي خاضتها البشرية خلال المئتي عام الماضية، ووجد أن الدول "العملاقة"، وهي الدول التي تتفوق بنسبة لا تقل عن عشر مرات على أعدائها، سواء في القوة العسكرية أو عدد السكان؛ انتصرت فقط في 71.5% من تلك الحروب على الدول "الضعيفة"، بينما كان من البديهي أن تنتصر كل دولة "قوية" على أي دولة "ضعيفة".
لكن هذا الكتاب المتبحّر لا يتوقف فقط أمام هذه القصة، بل يستلهم ويناقش نفس الفكرة من أحداث معاصرة، كما حدث في اضطرابات "إيرلندا الشمالية"، وعقول علماء بحوث السرطان، وزعماء الحقوق المدنية، بل يتجاوز الحدود بتناول القتل، وارتفاع تكلفة الانتقام، وكل هذه الأمثلة وغيرها لتثبت أهمية وجمال أن يبذل الكثير من الوقت والجهد والحياة لينتشل الإنسان نفسه من المعاناة، وما يحيط بها من الشدائد، لينطلق نحو واقع يحلم به.
يكرر الكاتب فكرته ولكن بأشكال عديدة، فهو يؤمن كما ورد في كتبه السابقة، أن النبوغ والنجاح، وإن كان يعتمد على موهبة فطريّة؛ إلا أن الإنسان هو من يصنع مستقبله وحياته، وأنه قادر على قلب الموازين، فقط متى آمن بنفسه، وتعامل مع الأحداث بتعامل مختلف وصادق، كما تناول ذلك في كتابه الشهير "Outliner"، ويؤكد أنه متى قرر الإنسان العادي مواجهة "عملاق" أمامه، فإنه قادر على التغلب عليه، وغني عن القول إن المقصود بالعملاق هنا: هو كل شيء يصارعه الإنسان في حياته، مهما كان ضخماً أو صعباً في نظر الآخرين، سواء من تجبر والد متسلط، أو مدير قاتل للإبداع، أو حتى زوجة سليطة اللسان! كل ما عليك فقط – عزيزي - أن تحدد عدوك العملاق، وتبدأ بالتخطيط للقضاء عليه..