بينما تنهمك معظم البلدان العربية في حروب داخلية طاحنة، تتجه القوى الكبرى إلى ترتيب أوضاعها، في معادلات القوة الدولية. والصراع بين عمالقة القوة، وكما كان لأكثر من قرن من الزمن، في جزء رئيسي منه، هو على منطقتنا.

كان ذلك، أثناء مقارعتنا لهيمنة الاستبداد العثماني، وبشكل خاص عندما تكالبت القوى الكبرى، للانقضاض على الرجل المريض في الأستانة. واستمر ذلك في حلقات متصلة، في أثناء الحرب الكونية الأولى، وخلال مفاوضات المنتصرين، بهدف اقتسام غنائم الحرب. وتواصلت فيما بين الحربين الكونيتين، وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت منطقتنا واحدة من المسارح الرئيسية الدامية لتلك الحرب. وخلال الحرب الباردة، كان الصراع على المنطقة العربية، من أبرز ملامح تلك الحرب.

وفي كل محطة من محطات الانتقال في السياسة الدولية، يكون محتما أن يقضم المزيد من حقوقنا. وبدلا من أن يكون لنا مكان لائق تحت الشمس، فإننا في أحسن الأحوال نكون من ملحقات هذا الفريق أو ذاك.

تشكل النظام العربي الرسمي، مع تأسيس جامعة الدول العربية، إثر نهاية الحرب العالمية الثانية. وحينها لم تكن معظم الأقطار العربية قد أنجزت استقلالها بعد، لكن ملامح تلك المرحلة، شهدت صعودا كاسحا، لحركات التحرر الوطني من الاستعمار التقليدي، وفي المقدمة من ذلك نضال جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، التي جاءت تتويجا لانتصارات السويس، بما يجعل العرب يتفاءلون بأن يوم إنجاز الاستقلال السياسي للأمة العربية، وبالتالي تحقيق الوحدة أصبح قاب قوسين أو أدني.

وخلال مرحلة الاستقلال، ساد نظام دولي، تربع على عرشه قطبان رئيسيان هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي. وقد دفعت النتائج المريرة للحرب الكونية الثانية، إلى سيادة طرح عقلاني بين دول العالم الثالث، طرح ينأى بنفسه عن الالتحاق بأي من المعسكرين، لصالح قيام كتلة عالمية ثالثة، توافق عليها أقطاب من زعماء العالم الثالث في مؤتمر باندونج بإندونيسيا، وعرفت بكتلة عدم الانحياز. ولم يكن نشوء هذه الكتلة، موقفا وسطا، بل كان رفضا إيجابيا، لأن تكون تروسا في الصراع بين عمالقة القوة، وأن نكون فاعلين ومؤثرين في صناعة السياسة الدولية.

إنجاز الاستقلال الوطني، في القارات الثلاث، الذي استكمل في مطالع السبعينات من القرن المنصرم، حمل معه يافطات جديدة، ألحقت معظم المستعمرات السابقة، سياسيا واقتصاديا بأسيادها السابقين. وكانت المحصلة هي حصول دول العالم الثالث، على صكوك استقلال مزيفة، سرعان ما أسهمت، بعد التحاقها بالكتلة الثالثة، كتلة عدم الانحياز، في إضعافها، وتحويلها إلى مجرد منبر سياسي، يتسابق عليه الخطباء، دون فاعلية أو تأثير في مجرى السياسة الدولية.

أما عمالقة القوة، فقد بقيت أحلافهم العسكرية وتكتلاتهم الاقتصادية تعمل دون كلل، ولم تتغير الصورة كثيرا إلا بعد منتصف الثمانينات من القرن المنصرم، حين تكشف الخلل الفاضح في معادلة القوة الاقتصادية بين القطبين الدوليين، لصالح المعسكر الغربي، بما أدت مآلاته إلى سقوط الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، والتحاق معظم دول أوروبا الشرقية بكتلة الناتو، وسقوط حلف وارسو.

بالنسبة لجامعة الدول العربية، المنظمة الوحيدة التي تجمع النظام العربي الرسمي تحت مظلة واحدة، فقد بقيت مشلولة، ولم يلتزم الموقعون على ميثاقها ومعاهداتها وبرتوكولاتها، بأي مما وقعوا عليه، وكانت النتيجة أن عاشت هذه المنظمة في سبات طويل، وعلى هامش المتغيرات الدولية، في بقعة هي من أهم المواقع، الاستراتيجية العالمية، من حيث معابرها وممراتها، أو من حيث ما تختزنه أرضها من ثروات.

مجددا يعود الدب القطبي بقوة إلى الساحة الدولية، ومع عودته تبرز خارطة تكتلات واستقطابات دولية جديدة. وكان آخر تجسيد للقوة الروسية الصاعدة، ولبزوغ روح الحرب الباردة، قد برز في اجتماع مجموعة العشرين، التي أراد لها قيصر روسيا الجديد السيد بوتين أن تعقد في سان بطرس بورغ، في إيماءة واضحة لا تخطئها القراءة الواعية لتاريخ هذه المدينة.

عودة الدب القطبي للمعسكر الدولي، ليست مجرد صعود لدولة تملك من الإرث العسكري والسياسي والاقتصادي والحضاري، ما يمكنها للتنافس مع الغرب، ولكنها تأتي مصحوبة بتكتلات أخرى، قوية تسهم في منحها ثقلا إضافيا ضخما، تجسده قيادتها لمنظومتين دوليتين كبيرتين. الأولى منظمة البريكس، وتضم بالإضافة إلى روسيا، الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. ومنظمة شنغهاي للتعاون، وتضم بالإضافة إلى روسيا، الصين وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان وطاجيكستان، وتتمتع كل من الهند وإيران وباكستان وأفغانستان ومنغوليا بالعضوية المراقبة. والمعنى واضح ولا يحتاج إلى تفسير. فأكثر من مليارين من البشر هم ضمن دائرة التجمعين آنفي الذكر.

ولهذا يغدو من الصعوبة، ألا تأخذ الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها مبادرات روسيا السياسية بعين الاعتبار. ولعل أهم هذه المبادرات، مبادرة جنيف لحل الأزمة المستعصية في سوريا، والمبادرة المتعلقة بنزع أو تسليم السلاح الكيماوي السوري، كبديل عن المواجهة العسكرية.

في الوطن العربي، يبدو المشهد حزينا وقاتما، فلقد شرد أكثر من عشرين مليون شخص من ديارهم، في العراق وليبيا واليمن وسوريا والسودان، والقائمة مفتوحة، وأصبح حال الكثير من الشعوب العربية، حال الغجر في التاريخ، يهيمون على وجوههم، من غير مأوى. يحدث هذا والمنظمة العربية الرسمية تؤكد عجزها وفشلها كل يوم. فلا يعود هناك حديث عن ميثاق هذه الجامعة، ولا عن الأمن القومي العربي المستباح، ولا معاهدة الدفاع العربي المشترك.

أما حان الوقت ليكون لنا تكتلاتنا الخاصة بنا، التي تدافع عن أمننا ومصالحنا ومستقبلنا؟ وهل قدرنا أن نلهث باستمرار، وراء إنقاذ دولي من هنا أو هناك، بدلا من الإمساك بزمام مقاديرنا بأنفسنا؟

دعوة صادقة، تنشد التماهي مع روح العصر، وطبيعة المرحلة وسياقات الصراعات والتوازنات الدولية، التي ترى أن المستقبل والضمانة هما في التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى، إعادة الاعتبار للمؤسسات العربية، المعبرة عن الانتماء إلى الأمة، أو القبول بأن نكون على هامش التاريخ، تلك هي المعادلة، وقد ترددت كثيرا: نكون أو لا نكون؟!