لم يخطر ببالي عندما كتبت أول مقال عن فيروس كورونا بعد وفاة مساعد الغامدي ـ يرحمه الله ـ قبل عام، أنني سأظل أكتب عنه حتى اليوم. تنبأت في مقال "لعلمكم مع تحيات وزارة الصحة" بحدوث تفش إن لم تتدارك وزارة الصحة خطتها الاستقصائية والاتصالية مع الجمهور، حينما كان الوضع مجرد حالات محدودة. لم يكن التنبؤ معجزة وإنما حساب مخاطر وتقييم لوضع يعد من الأبجديات التي لا تخفى على أي مختص بالصحة العامة، فكيف عجزت عنها وزارة الصحة ووكالتها للصحة العامة؟!
مر عام من مسلسل التخبطات المستمر استقصائيا وإداريا واتصاليا محليا وخارجيا، كنا فيه البوصلة التي تقدم الاستشارات المجانية لوكالة الصحة العامة عبر مقالات متوالية لعلها تصحح مسارها الذي حصد أرواح 49 مواطنا ومقيما يرحمهم الله. مر عام من تخبط أولويات وكالة الصحة العامة حتى قاربنا المئة حالة خلال الأشهر الخمسة الماضية، منذ بدء تفشي الأحساء، والذي تلته بؤر متعددة في مناطق المملكة المختلفة ما زالت نشطة حتى الآن، لتسجل وزارة الصحة تفشي فيروس كورونا لدينا كأحد أطول التفشيات تاريخيا.
ومع أنه مخجل أن يتم إفراد مقال لأبجديات التعامل مع التفشيات، إلا أن قرب موسم الحج يحتم القيام بواجب المواطنة بتذكير وكالة الصحة العامة بها.
قامت منظمة الصحة العالمية في العام 2005 بإصدار كتيب بعنوان "الاتصال الإعلامي الفعال خلال طوارئ الصحة العامة"، وفيه سبع خطوات لمساعدة مسؤولي الصحة العامة على التواصل بشكل فعال مع وسائل الإعلام بشكل استباقي وتفاعلي؛ لضمان أن رسائلهم تصل بوضوح ودقة وبالتالي إعلام الجمهور بنجاح وتشجيع السلوكيات الوقائية ومن ثم الحد من تأثير هذه الطوارئ كالتفشيات. ولتسهيل مهمة تصفح الكتيب المرجع على تنفيذيي الصحة، فكل ما عليهم القيام به هو الرجوع للخطوة الرابعة، وهي إعداد الرسائل الإعلامية وتحديدا الصفحة 44 والتي تحوي على قالب للبيانات الإعلامية خلال التفشيات.
هذا القالب المقدم من منظمة الصحة العالمية هو لمساعدة من لا يملك خبرة في الصحة العامة، ويحوي الجزء الثاني منه على الأسئلة التالية: من المصاب أو المتوفى "عمرا وجنسا ووضع مخالطته وتاريخ سفره"، من المتسبب، من المسؤول، ماذا حصل، ما تكلفته، أين حصل، ماذا تم عمله للتعامل مع التفشي حتى اللحظة، متى حصل، لماذا حصل، لماذا لم يتم منعه من الحصول، وأخيرا هل سيحصل مجددا؟ تعد إجابات كل هذه الأسئلة الجوهر لكل بيان إعلامي أساسي أو إلحاقي لتفش أو بؤرة، وعند عدم وجود إجابة لأحدها، فإنه يتم الإشارة لذلك في البيان لحين الحصول عليها.
ولأن "وكيل الصحة العامة" ما فتئ يصرح أن بيانات وزارته المقتضبة هي لحماية خصوصية المرضى، فإني أحيل الوكالة مجددا للصفحة السادسة بالكتيب أعلاه، والتي عرفت خصوصية المريض خلال التفشيات بأنها اسمه وعنوانه فقط، وبالتالي فإن إجابات الأسئلة السابقة لا تخرق خصوصية المريض.
من المهم أيضا الإشارة لتنظيمات منظمة الصحة العالمية للتواصل مع الإعلام في الصفحة 90 من الكتيب تحت نقطة الشفافية: "عادة ما يكون مقبولا أن يتم الإعلان عن حدود الشفافية للجمهور ووسائل الإعلام وأسباب وضعها، إذا ما تم تبريرها. أما إذا كانت هذه الحدود بأعذار السرية غير المبررة، فإن النتيجة ستكون على الأرجح فقدان ثقة الجمهور".
لم تدخل وزارة الزراعة كلاعب رئيس لمكافحة تفشي فيروس كورونا، إلا خلال الشهر الحالي، أي بعد عام من الاستقصاء المتخبط، في تشخيص واضح على سوء إدارة التفشي. كيف يتم الاستقصاء عاما كاملا لفيروس معروف أن حاضنه حيواني من دون وزارة الزراعة؟ هذا الخرق لأساسيات الاستقصاء لا يمكن غض البصر عنه، فطلاب الطب في سنتهم الثالثة يعلمون أن الاستقصاء البيئي بمشاركة وزارة الزراعة لأي تفش مجتمعي هو أحد الأبجديات. هذه الخطوة المتأخرة ليست بحاجة لانتظار توجيه من منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إلا في حالتين: أن تكون المنظمة هي الممول للاستقصاء البيئي، أو أن وكالة الصحة العامة لا تعلم كيفية القيام بالاستقصاء البيئي.
نُشرت الكثير من الأبحاث عن فيروس كورونا من قبل تنفيذيي الصحة، ولن أتطرق هنا للخروقات الأخلاقية، التي ذكرتها مسبقا في مقال "الصحة والبؤرة العائلية". جميع ما نشره تنفيذيو الصحة هو مجرد بيانات وصفية تنتمي في مجملها للبيانات الإعلامية، ولا تصنف كأبحاث استقصائية تحليلية يتم على أساسها حل الكثير من الأسئلة المجهولة. لم تقم وكالة الصحة العامة بأي بحث استقصائي تحليلي كدراسات الحالة المقارنة خلال عام كامل، مع وجود العدد الكافي من البؤر والحالات، وما زالت عالقة في أشباه الأبحاث الوصفية، ولا مبرر لذلك سوى عجز الوكالة عن القيام بها، أو الجهل بأنها الخطوة الثامنة من خطوات الاستقصاء الوبائي، ويمكن للوكالة مراجعة الدرس السادس من الطبعة الثالثة المحدثة في مايو 2012 لكتاب مبادئ علم الأوبئة في ممارسة الصحة العامة الصادر من مركز التحكم بالأمراض الأميركي.
ذكر "وكيل الصحة العامة" في تحقيق نشرته الإذاعة الوطنية العامة بالولايات المتحدة، قبل عدة أيام، أنه لا يمكن لوم وكالته والوزارة إن لم يستطيعوا حل معضلة "كورونا" مع جميع الخبراء العالميين الذين استقدموهم لتوجيه جهود الوزارة الاستقصائية. غاب عن سعادة الوكيل أن أهم الخبراء قد تم تجاهلهم والتعالي عليهم، وهم جمهور المواطنين والمقيمين، والخبرات المحلية، الذين نصت منظمة الصحة العالمية على إعلامهم بالمستجدات، حتى تتسنى لهم المشاركة في الاحتواء، من أجل الوقاية والإسهام في حل المعضلة بمعلومات بيئية لا يعلمها إلا أبناء الوطن.