أوقن تماماً أن الموت حق، وأننا جميعاً في رحلة صوب تلك المحطة المربكة. أعرف أيضاً وأوقن تماماً أننا جميعاً سنغادر عالم الأحياء يوماً قد يكون مفاجئاً لمن حولنا حتى وإن لم يكن مفاجئاً لنا. وأعرف أيضاً أن "كل ابن أنثى وإن طالت سلامته... يوماً على آلة حدباء محمول". لكن أن تنسحب هذه المعارف وهذا اليقين على شخصية بحجم إنسانيتك وحضورك وتأثيرك فتلك مسرحية عبثية أحاول تجاوزها دون نجاح، لحظات فقد قاسية لم أستوعبها حتى اليوم وقد مضى على رحيلك عنا بضعة من الأيام.
أيام طويلة مربكة حزينة. أتنقل فيها ما بين صحيفة ورقية إلى أخرى إلكترونية لا أدري عما أبحث! عن خبر جديد، عن معجزة ربانية تعيد حسابات الرحيل، أم تراه نزقا معاندا لصورة ألقي عليها السلام من خلف الحواجز... صورة الأبناء، لقاءات الزوجة وكلمات الابنة، تفاصيل الرحيل، تأبين الأصدقاء من الوزراء والشعراء والمثقفين، تذكار، نشرة أخبار، لقاء تلفزيوني، قصيدة مرئية أو تغطية صحفية!
فزعت من الأحداث وطويت الصحف التي جاءت بالخبر وصور النظرة الأخيرة، "فزعت منها بآمالي إلى الكذب... حتى إذا لم يدع لي صدقها كذب.... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي". وعدت بك إلى ذكرى رفيقك المتنبي الذي أحببت شعره وصولاته وجولاته.
تلك كانت صورة واحدة لوداعك أيها الغازي عند كل من أحبوك!
اسمح لي بأن أتجاوز جزءاً من وصيتك، فها أنت قد مضيت وإن مضيت فسأقول: كان بطلاً ضد الهزائم والانكسارات وكان بطلاً ضد الظلم والظلام، كان بطلاً ضد من يحاوره بالكبريت والنار، كان بطلاً في مسيرة التنوير السعودية، وكان بطلاً في شقة الحرية، كان بطلاً شرقياً صادماً في "حكاية حب" في بلاد غربية، كان بطلاً لضمير الأمة في "سلمى"، كان بطلاً في حب حتى مع "الجنية"، كان بطلاً لإدارة التنظيم في "دنسكو" حتى بعد فشله في الوصول إلى رئاسة "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة". كان بطلاً ساخراً ممتعاً خفيف الظل في حكايا "أبو شلاخ البرمائي" لدرجة أقنع فيها ابنتي الطفلة ذات الثلاث عشرة سنة آنذاك بأن هناك ما يمكن قراءته باستمتاع في اللغة العربية. وكم ستطول قصص البطولات والإبداع في رحلة الكلمة والفكر لتروي هلع النفس المحزونة.
تحدثت معك كثيراً رغم أنني لم ألقاك وجهاً لوجه!
تحدثت معك حول الأدب الساخر ومغامرات "أبو شلاخ البرمائي" وأنت سيد الفكاهة الساخرة والبيان الساحر.
تحدثت معك حول روايتك الممتعة الساخرة "حكاية حب" ونسختها المترجمة إلى الإنجليزية. يومها فاض الأسى وجعاً على واقع ترجمة الأدب العربي. ترى من قرأ "حكاية حب" باللغة الإنجليزية ليتجاوز الحديث حول تقييم دور الترجمة الفردية إلى مؤسسات الترجمة في بلادنا؟
تحدثت معي حول الإبداع الساخر بعد أن قرأت مقالاً لي في"الوطن" حول أحوال الصرف الصحي في جدة. أذكر كيف أعجبك جداً ذلك المقال "حول اكتشاف أثري لحضارة بدة" والذي كتبته في "الوطن" وأنت وقتها الوزير والمسؤول الفريد الطراز المتابع شخصياً لكل ما يكتب في الصحافة حتى وإن لم يكن شيئاً يخص وزارتك بالتحديد. ولم تنس أن تطمئننا حينما كنت متحدثاً في منتدى جدة الاقتصادي عام 2008 أن تلك الأزمة قد أصبحت على وشك الانتهاء بعد أن رصدت لها الملايين في ميزانية ذلك العام. تحدثت حول عمل المرأة وما تحيط به من أسلاك شائكة في أروقة وزارة العمل التي حاربت فيها لنزع فتيل المتاجرة بالتأشيرات مقابل إجراءت صارمة للسعودة لم ترق للمتاجرين.
اسمح لي إن قلت إني آثرت دوماً إبداعاتك السردية والفكرية ولم أكن أعرف ما للشعر عندك من سطوة حتى فاجأتني مرثيتك الذاتية "حديقة الغروب". اليوم بعد أن مضيت إلى جنة الخلود وبنيت جنة خلود دنيوية تلهج باسمك عند كل من تقاطعوا معك مهنياً وإنسانيا، ليس أمامي إلا أن أنصت لما أوصيت به في تلك الحديقة:
لا تتبعيني! دعيني!.. واقرئي كتبي
فبين أوراقِها تلقاكِ أخباري
أخرجت كل كتبك أيها الراحل المتواجد بيننا فوجدتك حياً بأفكارك بيننا، وواحداً إثر واحد.. أسمع فيه كل أخبارك من لندن إلى كاليفورنيا مروراً بدنسكو. أقرأ كتابك الفذ "ثورة في السيرة النبوية" لأجد أننا ما زلنا جد في بداية الطريق.
تعددت أبعاد شخصيتك الثرية يا غازي ولن تحصيها مرثيات ولا مقالات. لكن يظل الجانب الإنساني هو ما تحتضنه القلوب وتلهج بذكراه الأنفس.
هل تذكر، كما أذكر أنا، ولن أنسى، كيف أن خبراً صغيراً كتب على صفحة "الوطن" لم يغب عن عينيك، فكانت إطلالتك الوردية حافزاً لي ولعائلتي في المرور عبر متاهات عملية زرع كلية لابني في المستشفى التخصصي في جدة. وفي صنو ذاك المستشفى في الرياض قضيت أنت فترة ما قبل الرحيل بكل شجاعة وإبداع لم ينقطع.
ولكن، لئن ذهبت بجسدك إلى الفردوس الأعلى، ففي قلوبنا يبقى الوفاء، وتبقى الذكريات.