على رأس اليوم الوطني الثالث والثمانين، رزئ (عبدالرحمن) بحادث سير (منحه) ثلاثة كسور واشتباه بنزيف حاد في المعدة. يكبر (عبدالرحمن) أرقام (يوم الوطن) بعامين أو ربما يكون أصغر منها بذات القدر من الزمن. ثمانون عاماً لعبدالرحمن: نصفها مع الجهل وتحالف كل سلبيات الظروف ونصفها التالي (جهاد) من أجل لقمة العيش.

عاش عبدالرحمن كل هذه العقود الطويلة ضحية لكل شيء: من الحاجة إلى التصنيف المجتمعي البغيض. لم يذهب لوطنه يوماً واحداً مثلما لم يأت هذا الوطن إليه رغم الجذر العميق وبطاقة الأحوال في الجيب. صباح العيد الثالث والثمانين للوطن أو حتى (عيد ميلاد عبدالرحمن) ما زال يشحذ استشارياً لربط العظام وقبلها ما زال يطلب سريراً ولو بالحشو في غرفة من ستة أسرّة. مأساة عبدالرحمن المبكية أنه بعد خمس وثمانين سنة يصف في الطابور الطويل كي يحقن بإبرة مهدئة قاتلة لآلامه المبرحة. سيخرج من حياته بإبرة واحدة.

ومثل عبدالرحمن، تصطف (فاطمة الريثي) في ذات الطابور. ومثله أيضاً تحاكي العوز والجهل وسوء الظروف وأيضاً: ثمانون عاماً من الزمن. لها من الحياة أربع بنات وولد، ولولدها أيضاً ست بنات وولد واحد. وليلة (عيد الوطن) وقفوا أمام منزلي (كلهم) في (جيب مقفص) شاهدته بكل الدهشة لأن (هندسته الفراغية) أصغر من مساحة هذه الأجساد التي احتشدت فيه كالسردين. وحتى (أنا) الذي يعرف بعض ظروفهم منذ سنين، فقد دهشت أيضاً من أن ظرفهم المأساوي كان بهذه الفظاعة التي لا يصورها شيء بمثل هذا (الجيب) الأثري المحنط. كيف نطلب من هؤلاء البنات العشر أن يحتفلن بيوم الوطن الوطني وماذا سنقول لهن في مثل هذا اليوم. من هو الذي سيصدق إن قلت إن في منزلهن خمسة أزواج من الأحذية المهترئة لعشر بنات يعمل فيها الحذاء (بالنوبة) وحاسبوني إن كذبت. من هو الذي سيصدق في عوالم الثراء الفاحش أن البنت الصغرى لم تعرف أبداً أبداً طعم حليب الأطفال. أنا لا أسأل اليوم الوطني أبداً بل: أسأل عن (الكافيار).