طبيعي أن تختزن الشعوب في ذاكرتها التاريخية أياما خاصة، تختزل فيها مجازا انتصاراتها، وبعضا من هوياتها، وعبورها من حال إلى حال، هو بالضرورة أكثر تطورا وبهجة. وليس في كوكبنا الأرضي شعب ما لا يجترح مناسبات من هذا النوع، وبعضها له علاقة بتاريخ الاستقلال، وبعضها الآخر مرتبط بالانتقال من نظام سياسي إلى آخر. وهناك مناسبات وطنية أخرى ترتبط بالانتصار في الحروب الوطنية، وتحقيق النصر على الخصوم.
لكن الوضع مع يومنا الوطني مختلف جدا، فهذا اليوم بالنسبة لنا ليس مجرد حضور، بل هو مهد بداية، ومنطلق وجود. فقبل التأسيس لم نكن وطنا، بل أشلاء ممزقة، ينهش فيها الغرباء والطامعون، من سلاطين آل عثمان، ومن أمراء حرب اختاروا أن يكونوا خارج التاريخ. ومعنى يوم الوطن لا يزال في تجلياته عصيا عن تقديم دقيق الوصف، لما جرى من إعجاز أبهر العالم أجمع.
كان مهد بداية، بمعنى أنه تحقق من خلاله اكتساب جديد وعميق وواع، وأعلى لهوية جامعة. ومهد بداية أيضا، لأنه حمل عنوانا جديدا، اسمه الوطن. والمعنى في متتالياته وتداعياته، يحمل فكرة المواطنة والوطنية، وهما تبشير بالانتقال من مفهوم الغلبة، الذي حكم علاقة المحكومين بالحاكمين، إلى توق وعلاقة مختلفة تماما، دولة المواطنة الكاملة، الدولة التي تحمل معنى المساواة وتكافؤ الفرص، وهما ما يمنحان فكرة الانتماء للوطن معنى عميقا وأخاذا. وثالث منجز يحققه التأسيس، بعد الهوية والمواطنة، هو تأسيس الدولة العصرية، في عالم تتقاذفه الصراعات، وليس فيه مكان إلا للأقوياء، الواثقين بقدر ومستقبل أوطانهم وأمتهم.
فهذه البلاد الواسعة والمترامية الأطراف انتظرت طويلا، الحادي والقائد القادر على قهر الصعاب وتوحيدها، واختزال طريق طويل، حلم به كل العرب، في إقامة إمبراطورية عربية كبرى موحدة. وقد كان هذا الحلم مبرر انطلاق حركة النهضة العربية في بلاد الشام والعراق، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قبيل اندلاع الحرب الكونية الأولى في مواجهة الاستبداد التركي، والذي انتهى بالتحالف مع الحلفاء.
وقد شهدت عملية توحيد الجزيرة العربية، على يد مؤسس المملكة، المغفور له بإذن الملك عبد العزيز بن عبدالرحمن آل سعود، ملاحم امتزج فيها الدم بالذاكرة، وبالتاريخ لتنتهي وطنا شامخا، يطرز سارياته علم التوحيد، مطوقا ضفاف خليج العرب وبحرهم الأحمر، معانقا بادية الشام واليمن السعيد، ليكون ركيزة في حماية جزيرة العرب من طمع الطامعين وكيد الكائدين.
وكان اكتشاف النفط وإنتاجه بكميات تجارية كثيفة في مطالع الثلاثينات من القرن المنصرم، قد أسهم في تشكيل دولة عصرية، ونهضة غير مسبوقة في هذا الجزء من العالم. ومنذ ذلك التاريخ حثت بلادنا، تحت قيادات رشيدة، الخطى نحو استكمال بناء الدولة. والهدف الأول والأعظم في خطط التنمية السعودية هو تطوير الموارد البشرية، باعتبار أن أي حديث عن تنمية اقتصادية أو اجتماعية، لن يكون فاعلا، ما لم يجر نشر العلم، والقضاء على الأمية، وإعداد الكوادر الإنسانية اللازمة لصناعة النهضة.
وليس من شك في من أن نتائج هذا الاستثمار الإنساني، هو هذا الصرح الشامخ، الذي نعتز ونفاخر به، في ظل انهيارات كبرى، تعيشها معظم البلدان العربية، في الثلاث سنوات الأخيرة، حيث تسيل شلالات الدم بغزارة، في العراق وسورية واليمن وليبيا ومصر، وتمتلئ شوارع المدن العربية العريقة، بعشرات القتلى والجرحى، متحولة إلى أنقاض وأطلال ودمار وخراب، وحيث تنتهي حياة الملايين من البشر إلى التشريد والضياع، لينتهي حلم التنمية والتقدم والبناء، الذي حلمت به الأمة منذ عشرات السنين، إلى تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ، بينما ننعم نحن، والحمد لله، بالأمن والاستقرار والرخاء.
نحتفي باليوم الوطني، يوم الوطن، بطريقتنا المعتادة، وأسلوبنا المميز، بمزيد من العزيمة والتصميم، على بناء الوطن، لتناطح أبراجه السحاب، وليكون عنوانا في زمن العجز والقهر والخراب، لبلد كريم وعزيز، يرفع أبناؤه راية البناء، معتمدين بعد الله، على سواعدهم، بعد أن امتلكوا ناصية العلم والمعرفة في بناء هذا الوطن.
العمر المديد لحادي نهضة بلادنا، خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وهنيئا لنا جميعا، قيادة وشعبا، في عرس الوطن، بهذا التلاحم والحب الكبير، وتحية من القلب ليوم الوطن.