لم يكن إعجابي بالملك عبد العزيز -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته وليد دراستي مادة التاريخ فهي ـ في المجمل ـ جافة، إذ تُروى عادة بأسلوب خال من أي تشويق لا من ناحية أسلوب الكتابة ولا من ناحية عرض المعلومة، ولذا كان إعجابي به -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته نابعا من حديث الوالد -رحمه الله- وتغمده بواسع رحمته.. فقد كان كمعظم شباب زمانه معجبا بالفارس والملك الحكيم المهيب عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود..فبقدر ما كان يحبه كان يهابه، وهو نفسه ـ رحمه الله ـ كان مهيب الطلعة قلما يهتز أمامه الرجال.. إلا أن الملك عبد العزيز لم يكن كغيره من الرجال، كان رجلا فريدا من نوعه في سيرته وفي إنجازاته، استطاع بحكمته البليغة توحيد أرض الجزيرة تحت راية واحدة، جعل من اختلاف أطرافها وطباع أهلها بل واختلاف مذاهبهم، اختلاف تكامل لا اختلاف تعارض.. ومن هنا أتفهم كيف كان أبي يهابه ويحترمه، وكيف كان ويفتخر بجلوسه في حضرة الملك عبد العزيز -رحمهما الله.
لكن أكثر ما كان يثير اهتمامي يتعلق بحياة الملك عبد العزيز الخاصة، كيف نشأ وكيف كانت علاقته مع أفراد أسرته؛ والديه، إخوانه وأخواته، زوجاته، وأولاده وبناته وحتى أصدقائه؟ كان هذا الحديث يطربني ويسافر بأفكاري إلى أماكن أخرى فأتخيل كيف كان يعيش هذا الفارس وكيف أصبح ملكا، وكيف ترك لنا هذا الإرث العظيم.
ومن هنا سأضع بين يدي القارئ الفاضل بعض الصور من بره بوالده الإمام عبد الرحمن -رحمه الله، البر الذي يجعلني أجزم أن التوفيق الذي لازم الملك عبد العزيز كان بسبب تقواه وطاعته لله -سبحانه وتعالى- ثم بره بوالديه قبل فطنته وشجاعته وقوة منطقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه} اللهم اكرمنا ببر آبائنا وأمهاتنا أحياء وأمواتا، وببر أبنائنا وبناتنا لنا إنك ولي ذلك والقادر عليه.
ذكر ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز حفظه الله في إحدى محاضراته أن الملك عبد العزيز "لم يكن يمشي في غرفة علوية بينما والده في الغرفة التي أسفل منها، كما أنه يساعد والده على امتطاء صهوة جواده، فيرفع قدميه بنفسه مع وجود مرافقي والده"، كما أضاف حفظه الله: "لم يكن بره بوالده أقل من بره بوالدته، التي اهتم بها ورعاها، وحرص على رضاها أحسن ما يكون البر والرعاية"، كان بارا خادما مبجلا لوالديه -رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته.
وإليكم ما رواه أحد مرافقيه المقربين :"أذكر يوماً وقد عدنا من مكة إلى الرياض، في ركاب الملك عبدالعزيز، وكان الإمام عبدالرحمن حياً، فوصلنا إلى بلدة مراة، فبعث يستأذن أباه في دخول الرياض، وعين الوقت الذي يمكن أن يصل فيه إلى الرياض. وفي صباح اليوم التالي مشى حتى بلغ أسوار المدينة قبل الميعاد الذي حدده بخمس وأربعين دقيقة. ولم يشأ أن يدخل المدينة حتى بعث يستأذنه مرة أخرى. وقصد بيت أبيه، فسأل عنه، فقيل له إنه لم يجلس بعد. فجلس في فناء الدار ما يقرب من عشر دقائق. ولما نزل الإمام عبدالرحمن إلى مجلسه، جاء الخادم، وأخبر الملك بإذن والده بالدخول عليه، فدخل، وقبّل رأس أبيه، وجلس على الأرض، ووالده على أريكة، ويده على ركبة أبيه".
وأضاف واصفا ما لمسه عن قرب: "لم يكن عبدالعزيز في ذلك الموقف ملكاً، وإنما كان في مظهر المتأدب المخلص المطيع، شأنه معه في سائر المواقف، طاعة وحباً" كما ذكر أنه: " عندما أراد عبد العزيز السفر من الرياض إلى الحجاز، في أواخر سنة 1346هـ/ 1927م، دخل على أبيه يودعه. وكان يخشى أن يكون الوداع الأخير، فكان يقبل يديه ويسأله: هل أنت راض عني؟ فيجيبه الإمام، وهو جلد صبور: "لا شك". فيعود إلى يديه يقبلهما، ويعيد السؤال: والدي هل أنت راضٍ عني؟ فيجيبه: لا شك في ذلك. وما زال يكرر السؤال، ووالده يجيبه من صميم قلبه برضاه؛ حتى شفى نفسه. وكان ذلك آخر لقاء له بأبيه، وصوت رضاه الأبوي يرن في أذنه..".
أما ما ذكره "سانت جون فيلبي" عن لقائه الأول بالأمير عبدالعزيز سنة 1333هـ/1915، فيستوجب التدبر منا جميعا فقد قال :"دخلت الرياض، ومعي الكولونيل كانليف أوين، وجندي من الخدمة، وقد ارتدينا الملابس العربية، وكان في استقبالنا إبراهيم بن جميعة، فدخل بنا القصر، إلى غرفة كان فيها شيخ ضئيل الجسم، في نحو السبعين من عمره. سلمنا عليه، ودعانا إلى الجلوس، وجيء بالقهوة، وهو يسأل عن أحوالنا ويلاطفنا." وأضاف فيلبي: وبينما كنت أقول في نفسي: من هذا؟ وأين ابن سعود؟ إذا بالشيخ ينهض متمهلاً، ويقول: مرحباً بكم، حديثكم مع الابن عبدالعزيز… وما كاد يتوارى، حتى انتصب من زاوية المجلس عملاق أقبل علينا، فعرفنا أنه سيد الجزيرة. وكان منطوياً على نفسه تأدباً في حضور أبيه، فكأن عيني لم تقع عليه." هذا الذي انزوى في حضرة أبيه بحيث لم يتمكن الزوار الأجانب من تمييزه على ضحامة جسمه وعلو مكانته، هو المؤسس -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- الملك عبد العزيز، حاله قلما رأيت لها مثيلا من التواضع والتذلل أمام الوالدين .. فكيف برجل أبهر العالم بقوته وذكائه وسعة معرفته ببواطن الأمور..كان بره بوالده مقدما على كل ما عداه بعد طاعته لله سبحانه وتعالى.. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
ونقل الأستاذ "أحمد حمدي الطاهر" عن شيخ كبير من علماء مكة، أنه قال :"لما استقرت الأمور للملك عبدالعزيز في الحجاز، حضر والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل آل سعود من الرياض، ليؤدي فريضة الحج، فدخل المسجد الحرام يطوف بالبيت العتيق، ومعه ابنه الملك عبدالعزيز. فطاف الوالد والولد، ولكن الأب كان -مسنا- ضعيفاً لا يقوى على المشي والتعب، فأدركه الإعياء فهبط على الأرض بعد ثلاثة أشواط من الطواف. فما كان من ابنه الملك، الذي يمكنه أن يصدر الأوامر إلى خدمه وعبيده بأن يحملوه على أكف الراحة، إلاّ أن حمل والده على مرأى من الناس جميعاً! وأتم بقية الأشواط، حقيقة.. إن الملك عبد العزيز ملك يستحق الحب والتقدير والإجلال حيا أو ميتا.. ويستحق أن تلتفت وزارة التربية والتعليم لإعادة كتابة سيرته بشكل مشوق، فتُروى جوانب من حياته وعلاقته مع ربه وأسرته وأصدقائه وشعبه إلى جانب حنكته السياسية وبعد نظره.