في استعراض أخاذٍ، يكتب الزميل العزيز، حمزة السالم، متأسفاً ومحذراً من الانحسار المجتمعي الشعبوي لدعوة المجدد إمام التوحيد، الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وتحت عنوان (السلفية على فراش الموت، صحيفة الجزيرة 14 سبتمبر)، يستعرض الزميل بعض الظواهر ويفند بعض الأسباب التي أدت إلى هذا الاعتلال، وربما كان على رأسها أن الجسد الحديث للمنظومة السلفية برمتها لم يدرك بعد ديناميكية الزمن وسرعة تحول المجتمعات بشكل لا تستطيع مفاهيم السلفية التقليدية وأحجياتها على المجاراة والمسايرة. هو يحذر من هذا الاعتلال لأن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كانت الوقود الروحي الذي قام عليه نظامنا السياسي، وبفضل هذه التوأمة المباركة عاشت هذه البلاد وحدة متماسكة لثلاثة قرون من الزمن. وفي الأسباب بعد تحليل الظواهر، فهو يعيد هذا الاعتلال إلى الأتباع والمريدين الذين لم يفهموا جوهر دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ولم يتبينوا مقاصدها، وعلى رأسها إلغاء التبعية والمرجعية الفردية وتقديس وتكريس الزعامة الدينية المطلقة، وخصوصاً في عصر حديث متسارع تعددت فيه أقنية الوصال والمشاركة والشراكة الجمعية التي لا تسمح بإملاءات الفرد أو المنظومة المؤسساتية في صلب العمل الديني.

سأختلف مع الزميل العزيز في تحليل وقراءة العنوان: لا يمكن أن تكون الحركة السلفية (على فراش الموت) لأن هذا توصيف يعاكس طباع التاريخ وغرائزيته. التاريخ نفسه يبرهن استحالة موت طريقة أو فصيل أو مذهب أو ديانة بعد أن تستأثر بالأتباع وتستكمل أركان المدرسة وتبني لها نظامها المنهجي، وهي ثلاثة شروط أوفت بها الحركة السلفية الشاملة. نحن هنا لا نتحدث عن العنوان ولا نحاوره، نحن نحاور جوهر وصلب (مقالة) الزميل العزيز: لماذا بدأ الانحسار الشعبي وبدأت الأسئلة المجتمعية كظاهرة تناور وتحاور الدعوة والحركة السلفية؟

أولاً: هي طبائع وغرائز إرهاصات هذا العصر المتسارع. وفي جملة قصيرة: فإن الاجتهاد في المسائل الدينية بطيء وجِل ومتخوف، بينما حركة السياسة ضوئية سريعة جداً ومتغيرة أيضاً ومتقلبة. المجتمع برمته، أو على الأقل قطاع واسع منه يرى أن الفقه السلفي المتشدد لا يواكب مستجدات العصر بالصورة المطلوبة، ولهذا يلجأ مع كل ظاهرة تحديث إلى التجريم والتحريم. وأكثر من هذا فإن المجتمع يرى في ردة الفعل الفقهية البحتة من الجسد السلفي تجاه كل جديد مستحدث حالة (انفصام) في مجتمع بالغ الحداثة: الفكرة السلفية ترفض كل جديد، لكنها ما تلبث أن تكون برموزها في قلب كل فكرة رفضت من قبل. رفضت بشدة مسألة تعليم الفتاة، ومن ثم في مجتمع ذكي يجنح للمراقبة، يشاهد بنات وحفيدات الرافضين لهذه القضية وهن رأس المشهد في التعليم الأنثوي. رفضت المؤسسة السلفية وجود التلفزيون ثم تدخل فيه اليوم بعشرات القنوات الفضائية. رفضت دخول الإنترنت لتصبح فيه من بعد لاعباً أساسياً بكل الامتياز. عارضت بكل ضراوة فكرة الابتعاث ثم يكتشف المجتمع أن لها فيه آلاف المبتعثين ومثلها من الملفات. هذه الأمثلة البسيطة ليست مجرد مشاهد أمام مجتمع يراقب المشهد بذكاء ثم ينظر لحالة انفصام في المواقف والمبادئ، بل هي أيضاً برهان على (بطء الفعل الفقهي أمام تسارع السياسة والعصر والتقنية).

ثانياً: وهو الأهم يجب ألا نحمل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وزر الأتباع والمريدين ولا أيضاً أخطاء المدرسة. هي دعوة تحمل في بساطتها أروع ما كان في حياة المسلم: توحيد الله والبراءة من الشرك. لكن الأتباع من بعده بعشرات السنين هم من حول مجرد الكتاب إلى مكتبة مثلما هم من حول دعوة الفرد الواحد المخلصة الخالصة إلى منظومة تعليمية هائلة بكل الزوائد والإضافات التي لم يقل بها إمام التوحيد في مؤلفاته وحياته.

وخذ بالمثال التقريبي أن مؤلفات الشيخ، يرحمه الله، وكل رسائله لم تتجاوز 300 صفحة. ولكن خذ في المثال التقريبي المقابل أن بضع ضغطات على المحرك الإلكتروني الجوجلي ستقول لك إن حجم الدخول بالكتابة عن منهج ابن عبدالوهاب ودعوته إلى الله سيصل إلى ما يقرب من 30 مليون (دخلة) لإضافة ورقية أو إلكترونية. ستقول لك أخبار ذات المحرك الإلكتروني إن رسائل الدكتوراه وأطروحات الماجستير عن دعوة إمام التوحيد تقترب اليوم (في العنوان الذي يحمل اسمه) من خمسمئة رسالة أو أطروحة، هذا عدا عن الأبحاث الأكاديمية والكتب المستقلة. كل هذه الإضافات الهائلة الكثيفة لا تحتملها دعوة إمام خالصة مخلصة لأنها تتبارى في التشدد، ولاحقاً في طلب الانتشار والنجومية بعكس جوهر دعوة الإمام وصلب منهجه.

وفي القانون العلمي: فإن التغذية الزائدة مثل التغذية الناقصة في المخرجات والنتائج. هذه بعض أسباب الاعتلال في نظرة المجتمع الذكي اللماح لما يحدث من حوله. انتهت المساحة ولم تنته الفكرة.