أيها الراقد في سلام، ونحن...، نحن موتى بلا أكفان!. هب أننا قلنا: (رحل غازي القصيبي)، ترى هل يعني ذلك أنك تغيب كالموتى؟!.

الموت يا أبانا.. ويا أخانا.. ويا معلمنا.. ويا صديقنا.. لا يُغيّب إلاّ معدومي الأثر، الطفيليين على البلاد والعباد، لا الذين قالوا ذات يوم:

ويا بلاداً نذرتُ العمرَ.. زَهرتَهُ

لعزّها!... دُمتِ!... إني حانَ إبحاري

تركتُ بين رمالِ البيدِ أغنيتي

وعند شاطئكِ المسحورِ أسماري

إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي

ولم أدنّس بسوق الزيف أفكاري

وإن مضيتُ.. فقولي: لم يكن بَطَلاً

وكان طفلي.. ومحبوبي.. وقيثاري

مثل هؤلاء الرجال يا شاعرنا لا يغيبون وإن رحلوا، ولا تشيخ فروسيتهم وإن ترجلوا، ولا تنساهم الأوطان وإن طال رحيلهم؛ ففي كل بيت تركته فينا، وكل عبارة استمدت وهجها من قلمك، ذكرى لا يمكن أن تصبح يوماً ما ورقة توت.. لأن الفكر.. لا يموت!.

وكيف يموت من رأى عيش الكرامة في الرحيل، لا في مداهنة الواقع المؤلم كواحد من البسطاء الذين لا يلامون إن خرسوا عن قول أو فعل أو موقف؟!. ألم يقل غازي القصيبي لنزار قباني بعد رحيله:

نزار أزف إليك الخبر

سئمت الحياة بعصر الرفات

فهيئ بقربك لي حفرة

فعيش الكرامة تحت الحفر؟!

هكذا يشعر المرء الحر حينما تحاصره الدنيا (في زمن رديء ما) بريائها ونفاقها وزيفها. الزمن الذي لا تصلح السباحة فيه، لا مع التيار ولا ضده، هو زمن لا يستحق البكاء!.

الآن يستريح القصيبي، كما استراح نزار، وكما استراح كل الأدباء العظام الراحلين عن عالمنا الزائف. يستريح بعدما ناجى ربه في لحظة صدق وصفاء وضعف إنساني نبيل راجياً العفو والمغفرة:

يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه

وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري

وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به

عليّ.. ما خدشته كل أوزاري

أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي

أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟

فليرحمك الله ويغفر لك، أيها الإنسان، الشاعر، الروائي، السفير، الوزير، غازي القصيبي، ويلهم أهلك وذويك وكل الذين تألموا لفراقك الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.