اكتسح نزيف الفتاوى وسيولها الجارفة في الفترة الماضية مشهدنا السعودي مثيرا الكثير من اللغط والبلبلة والجدليات العقيمة، ومطالبات الحجر الصادرة من على منبر الحرم المكي الشريف، وغيره من المنابر! فضلا على الفجور في الخصومة والتنابز بالألقاب العنصرية والمعايرة بالمهنة إلى آخر ما شهدناه من غرائب وعجائب طارت بأخبارها الآفاق الإلكترونية والفضائية! ناهيك أيضا عما سببته من تشويه لصورة الدين الإسلامي، جعل منا مضغة في أقلام وإعلام القاصي والداني؛ خاصة ونحن نعيش اليوم في عالم أصغر من نقرة فأرة، وأضيق من ضغطة (ريموت)! زيادة على فتاوى غير مسؤولة لا تعبأ بالوحدة الوطنية أو بتفتت النسيج المجتمعي؛ كفتوى تكفير الإخوة الشيعة، وأخرى لا ترى حرجا في تكفير العباد وإخراجهم من الملة على خلفية قضايا خلافية؛ إلى عجائب الفتاوى وشواذها التي أخرجت من مخابئها المهجورة في دهاليز الموروث!
ولست هنا بصدد الحديث عن الوثيقة الملكية السامية التي تهدف إلى مأسسة الفتوى وتنظيمها، ولكني سأتحدث عن استشراء ثقافة السؤال والاستفتاء وتغلغلها في المجتمع السعودي؛ فالناس يبحثون عن فتوى ترشدهم حتى في الأمور التي يفترض أنها بديهيات ومسلّمات لا تحتاج إلى وجهة نظر دينية فيها، مع غياب كامل للعقلية النقدية القادرة على تفكيك رأي مطلق الفتوى. وبهذا يهدر العقل وتتعطل ملكاته؛ فالرأي لبس مسوح الدين وقفطان القداسة؛ حتى لو جهل السائل الخلفية الثقافية والمكون المعرفي للشيخ الموجه إليه السؤال! فالقضية ليست رأيا أو أفكارا مطروحة للنقاش أو قابلة للأخذ والرد، ولكنها رؤية تتوحد بالدين وتمتزج بالقدسية لتصبح عصية على المساءلة والنقد. وهكذا نشطت المتاجرة بالدين والفتاوى، ليستخدم كإحدى مفردات الثقافة الاستهلاكية، ويبتذل ويرخص حد الاستخدام والدعاية له -كأية سلعة- عن طريق رسائل الجوال، أو شريط الإعلانات في القنوات، والتجارة شطارة والشاطر من يكسب أكثر!
من نافل القول أن الأصل في الأمور الإباحة، ولكن الحال انقلب ليصبح الأصل في الأمور التحريم والتشديد، وتضييق الواسع والأخذ بالأحوط وسد الذرائع حتى لو كان سد الذرائع يفتح أبوابا جديدة للشر! مما جعل الناس مرتهنين للفتوى، مغفلين أهمية إعمال العقل في الإسلام وشحذ ملكاته عبر آليتي التفكر والتدبر، ومن ثم تحمل مسؤولية اتخاذ القرار الواعي بذاتيته وتفرده، مما أفقدهم الثقة في أنفسهم وقدرتهم على الحكم على الأمور واستفتاء قلوبهم وضمائرهم حتى في أهون الأمور وأقلها شأنا!
سيادة الإسلام الشكلاني والطقوس المفرغة من معانيها، ساهمتا في نشر ثقافة الفتوى والسؤال، لتتحول الأسئلة عن الصلاة ومعانيها إلى أسئلة عن الحركات والإيماءات، وإلى تنافس محموم على أداء أكبر عدد من الصلوات دون اهتمام بالكيفية والمعنى، ولتتحول مفاهيم الصيام وأسئلته العظيمة إلى حكم التنخيم أو القطرة أو استخدام أدوات المكياج!
وبهمينة الخطاب الديني الشكلاني، غرق الناس في التفاصيل ونسوا قضاياهم الكبرى وأسئلة النهضة والخروج من التخلف، وقضايا الفساد وسرقة المال العام، وسيادة الجهوية وثقافة الولاء عوضا عن ثقافة الإنجاز، وغيرها من القضايا المهمة لتنصب اهتماماتهم على القشور بعيدا عن الجوهر!