بعد ابتعاد عن النشر في يوم الجمعة دام عاماً ونصف العام، أعود اليوم إلى ما سمّاه أحد القراء طيلة سنوات مضت بـ"حديث الجمعة"، الذي داومت فيه لسبع سنوات على النشر هنا في "الوطن"، إلا أن هذا المقال يأتي مختلفاً نوعاً ما عن السنوات السابقة؛ كونه أولاً يجعلني ألتقي القارئ العزيز مرتين أسبوعياً (الجمعة والاثنين)، كما أنه يُعد الأول بعد الأمر الملكي الذي غيّر موعد العطلة الأسبوعية في المملكة إلى يومي الجمعة والسبت مما كان له العديد من الإيجابيات الاجتماعية والاقتصادية التي عادت بالفائدة على الفرد والمجتمع السعودي.

فمن الناحية الاقتصادية أوضح نصّ القرار أهمية المكانة الاقتصادية والالتزامات الدولية والإقليمية للمملكة، وتوجهاتها نحو استثمار هذه المكانة لما فيه مصلحتها ومصلحة مواطنيها، وذلك بتحقيق التجانس في أيام العمل الأسبوعية بين الأجهزة والمصالح الحكومية والهيئات والمؤسسات الوطنية ونظيراتها الإقليمية والدولية، حرصاً على الحد من الآثار السلبية والفرص الاقتصادية المهدرة المرتبطة باستمرار التباين القائم في بعض أيام العمل بين تلك الأجهزة والمصالح والمؤسسات والهيئات الوطنية ونظيراتها الدولية والإقليمية.

وبالإضافة إلى الفوائد الاقتصادية لهذا القرار الهادئ والصائب والحكيم، ترتبت عليه آثار إيجابية على المستوى الاجتماعي بدت واضحة منذ البداية؛ إذ جعل هذا القرار "الجمعة" يوماً أجمل وأكثر فسحة، دون أن يمسّ بالشعيرة المقدسة لهذا اليوم التي لا توجد في سواه من أيام الأسبوع لدى المسلمين.

في السابق، كان "الجمعة" ختام العطلة الأسبوعية بالنسبة للسعوديين، إذ هو أشبه بيوم معدود الساعات، يكاد ينتهي في الأذهان بعد تأدية صلاة الجمعة؛ وذلك نتيجة للاستعدادات التي تجري على قدم وساق بشكل أشبه بالطوارئ لدى معظم الأسر السعودية، في محاولة للجمع بين الاستمتاع بنهاية عطلة الأسبوع والاستعداد في الوقت ذاته لليوم التالي (السبت) الذي كان فاتحة أيام العمل الأسبوعي، حتى أصبح السبت يوصف بالكآبة والثقل، وتنسج حوله الكثير من حكايات التندر والسخرية في المجتمع السعودي!

القرار الملكي أعاد لهذين اليومين الكثير من البهجة، ليصبح "الجمعة" ممتعاً للفرد والأسرة في السعودية، نتيجة امتداد نسبية الزمن، إذ أصبح الشعور العام لدى الناس بأنه يوم ممتد لا وجود لارتباطات عملية أو دراسية تعقبه فتفسد متعته، بل حتى المتقاعدين باتوا يشعرون بأن عطلة نهاية الأسبوع صارت تعطيهم وقتاً أطول مع أحبتهم، كما يقول أحد الأصدقاء.

أزعم أن هذا القرار أسهم في صناعة واقع اجتماعي جميل، لكنه من جانب آخر أوضح لنا كمجتمع جانباً آخر في غاية الأهمية، وهو أن القرارات العليا ذات المصلحة العامة حين تُفرض ويمارسها المجتمع كواقع، تزداد لدينا ضرورة التفكير والانتباه إلى كمية الوهم القابع في أذهان بعضنا، فقد اكتشفنا أن مبررات "الممانعة" بخصوص تغيير موعد العطلة الأسبوعية لم تكن سوى وهم مبني على مبررات غير واقعية، فضلاً عن كونها خطأ فادحاً أسهم في تأخير المصلحة الاجتماعية.

والأمثلة الأخرى على ذلك كثيرة، حفظها المجتمع لكثرة تكرارها، ولكن ربما نحن بحاجة ماسة للتذكير بها كلما حصلت الممانعات، ولا سيما أن ثقافة المجتمع شهدت "ممانعات" مشابهة منذ عهد الملك المؤسس، كرفض وسائل الاتصال الحديثة مثل البرق والراديو والتلفزيون، وهذا النسق الذهني الممانع في المجتمع جعل "الممنوعات" متأصلة مع كل جديد يأتي لاحقاً، سواء أكان مادياً أو فكرياً، وهذا الفكر الرافض بشكل مطلق لمنتجات وقيم الحضارة الحديثة غير مبرر، فمنذ عشرين سنة تقريباً سبقت الممانعة وجود أطباق الاستقبال الفضائي بالتحذير من "البث المباشر" الذي أصبح رجساً من عمل الشيطان دون أن نعرفه أصلاً، وانتقلت هذه الممانعة إلى "الجوال" المزود بكاميرا، وعلى الرغم من أن الرفض والتحذير من هذه التقنيات لم يعد موجوداً، إلا أن الممانعات ما زالت موجودة وتتشكل بحسب كل جديد، مما يجعل المجتمع يدخل في قضايا هامشية تجاوزها الزمن، لا يحسمها إلا مثل هذه القرارات العليا المتعلقة بالمصلحة العامة التي توقظ المجتمع من غفواته وأوهامه.