أثار التقرير السنوي لديوان المراقبة العامة، الذي ناقشه مجلس الشورى أخيرا، تساؤلات العديد من المواطنين والكتّاب والخبراء الاقتصاديين حول وجود مبالغ تقدر بـ(3.5) مليارات ريال صرفت بدون وجه حق أو الالتزام بها دون سند نظامي خلال العام المالي 1433 /1434 في الجهات الحكومية.
وفي هذا الخصوص، صرّح نائب رئيس اللجنة المالية في مجلس الشورى للإعلام بأن تلك الأموال التي صرفت دون وجه حق "تندرج تحت أكثر من سبب منها: عدم وجود مستندات، أو أن الجهة الرقابية لا ترى أحقية الصرف"!، وأضاف أيضاً بخصوص تلك المخالفات: "لا يشترط أن تكون اختلاساً أو فساداً أو خلافه، ومصطلح صرف المبالغ من دون وجه حق أو سند نظامي هو صرف ليس بالوجه المطلوب المحدد نظاماً من وجهة نظر الديوان"، كما أشار إلى أن تقرير الديوان المرفوع للمجلس لا يوضح ماهية تلك المخالفات!
وهذا في الحقيقة ما جعل الرأي العام يتساءل عن تفاصيل وطبيعة تلك المخالفات التي نتج عنها صرف وهدر مبالغ طائلة من المال العام دون وجود محاسبة أو مساءلة للجهات الحكومية، حتى أن البعض اعتبر تصريح نائب رئيس اللجنة المالية هو نوع من "تلطيف الجو"، والبعض الآخر يرى أنه نوع من "التعتيم" على تلك المخالفات، بالرغم من اعتراف عضو مجلس الشورى بأن تقرير الديوان لا يتضمن تفاصيل تلك المخالفات.
هناك اعتقاد راسخ لدى كثير من الناس، بأن مبلغ (3.5) مليارات ريال، تم صرفها من دون وجه حق، بسبب الفساد المالي والإداري، ومخالفة الأنظمة والتعليمات ولا توجد أية مبررات مقنعة لهذه المخالفات سوى التهرّب من المساءلة، مطالبين في الوقت نفسه باتخاذ إجراءات حاسمة ضد الجهات الحكومية المخالفة.
لقد حاول البعض من الكتّاب والمختصين فهم وتفسير طبيعة تلك المخالفات بالرغم من نقص المعلومات والغموض الشديد الذي يشوب هذا الموضوع، فحتى مجلس الشورى لا يعلم تفاصيل تلك المخالفات.
فمن المختصين من يرى أن هناك إشكالية تتعلق بنظام المخصصات المالية (الميزانية)، ففي نهاية كل سنة مالية تحاول الجهات الحكومية صرف الاعتمادات المالية المتبقية لديها خوفاً من تخفيضها من قبل وزارة المالية في السنة المالية القادمة وعلى هذا الأساس تهدر الأموال في مجالات لا يستفيد منها المواطنون ولا تضيف قيمة للوطن مثل شراء السيارات للمسؤولين والصرف على الاحتفالات وغيرها، وبالرغم من الوجاهة المنطقية لهذا الرأي ووجوده في واقع الكثير من الجهات الحكومية، إلا أنه لا يتعلق بصرف الأموال بدون وجه حق، فغالباً ما تصرف هذه الأموال كشراء السيارات والصرف على الاحتفالات بشكل نظامي، وبالتالي لا تكون محل مخالفة أو ملاحظة للجهات الرقابية بسبب اكتمال المستندات الثبوتية للصرف.
البعض الآخر يرى أن عبارة: "دون وجه حق"، تمثل وجهة نظر ديوان المراقبة بمعنى أن الجهة الحكومية قد تصرف وتعمل ما قد تراه صحيحاً من وجهة نظرها، ولكن الديوان يراه دون وجه حق ما دام أن هذا الصرف غير منصوص عليه نظاماً وهذا الرأي أيضاً لا يمثل حقيقة المليارات المهدورة، فعملية صرف الاعتمادات المالية محكومة بالتعليمات المالية ولا يمكن صرفها إلا بموجب موافقة مسبقة من وزارة المالية، ولا تنشأ ملاحظات الرقابة المالية في الغالب إلا بناءً على أدلة ثبوتية واضحة.
ومن وجهة نظري الخاصة، فإن المليارات التي صرفت دون وجه حق لها عدة احتمالات في العرف الرقابي، فإما أنها تتعلق بوجود أخطاء محاسبية قد تكون متعمدة أو غير متعمدة، ومن ذلك على سبيل المثال صرف مبالغ بالزيادة لبعض الموظفين في الجهات الحكومية في الرواتب أو بدلات النقل، الابتعاث، الانتدابات، أوامر الإركاب وغيرها من المكافآت والعلاوات، وربما تكون هناك مخالفة لأنظمة الخدمة المدنية في عملية احتساب هذه المبالغ.
أو أن تلك المليارات تتعلق بعدم حسم غرامات التأخير وتكاليف الإشراف على المشاريع الحكومية، أو حسمها بأقل من المستحق، أو الخطأ في احتساب مستحقات بعض الشركات والمؤسسات المتعاقدة معها بعض الجهات الحكومية. في بعض الأحيان تقوم بعض الجهات الحكومية بصرف نفقات تخص سنوات مالية سابقة من اعتمادات السنة المالية الحالية، أو خصم مبالغ على بند غير مختص وفي جميع الأحوال يجب الرجوع إلى وزارة المالية لأخذ الموافقة على صرف تلك النفقات.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك أوجه أخرى وكثيرة للصرف دون وجه حق تتعلق بالصياغة الفنية والمالية لبعض العقود الحكومية، أو الازدواج في إبرام تلك العقود أو في بنود الاتفاقيات نفسها، بالإضافة إلى فقدان أصول مستندات الصرف.
هذا باختصار شديد عن أوجه الصرف دون وجه حق، وكما رأينا آنفاً قد تكون الأخطاء في عملية الصرف متعمدة أو غير متعمدة، وربما تكون هناك اختلاسات وعمليات تزوير ورشاوى وتلاعب وغيرها من أوجه الفساد، ولا يمكن تحديد ذلك إلا بتقييم أنظمة الرقابة الداخلية ميدانياً في الجهات الحكومية، وهذه الممارسة الرقابية غير موجودة على أرض الواقع للأسف الشديد.
الملفت للنظر في هذه القضية، أن الرأي العام تلقى خبر مناقشة مجلس الشورى لتقرير ديوان المراقبة كنوع من المساءلة والرقابة على الجهات الحكومية، ولكن الحقيقة كانت على العكس من ذلك، فكانت الرقابة على أداء الديوان نفسه وليست على الجهات الحكومية، وهذا ما يفسر عدم وجود تفصيل لطبيعة ملاحظات الديوان، وهذا ما يدعونا أيضاً للتساؤل عن طبيعة تقارير الديوان المرفوعة لمجلس الشورى، وعن العلاقة بينهما، وعن كيفية مساءلة الجهات الحكومية، وربما كانت قضية المليارات التي صرفت دون وجه حق، هي المفاتيح للدخول في مناقشة مثل هذه المواضيع، والأهم من ذلك كله، فإن الرأي العام كشف عن وجود حاجة ماسة لوجود المساءلة العامة، فكيف يمكن تحقيقها على أرض الواقع؟