الثنايا التاريخية الإسلامية تقدم مضمون الدين الإسلامي من منطلق السماحة والتسامح، وتؤكد على ذلك مجموعة القيم النبيلة لمفهوم الدين وتعاليمه، وتكرس من خلالها المفاهيم الأخلاقية الإنسانية تعاملا ومنهجا، غير قابلين للمساومة والتأويل والشخصنة على أسس اجتهادية خاصة ظرفية تقتضي حضورها أو تغييبها؛ لأن في ذلك تضعيف لقوة الدين وأبعاده الأيديولوجية، إذ ليس في الدين الإسلامي ما يوجب التكفير إلا لما بان عليه صراحة ذلك، وأوجب الحكم عليه من منظور أحكام الدين الصريحة، لا تلك التي يجوز فيها الأخذ والرد، والإسلام دقيق فيما يُعنى بهذا الأمر، ولا يقبل الاجتهاد فيه على ضوء أدلة لا يمكن وصفها بالصريحة.
لقد ظهر منهج التكفير في أوقات متفرقة من التاريخ الإسلامي، شهدت قسوة إنسانية وغيابا غريبا للوعي والحكمة وضعفا للحجة، أفرزت كيانات متناقضة لا تعترف بالآخر وحجته، وتتنكر بسذاجة لأبسط الحقوق الإنسانية والعقلية والأخلاقية والثقافية، قاذفا بصوت العقل والمنطق خارج منطلقاتها وهي التي يقوم عليها جوهر الدين، لتصنع الأهواء والعواطف فعلتها في أحد أهم أعمدة الإسلام، وتضرب بعنف نسق المجتمع المسلم في خاصرته. والتكفير كمنهج إقصائي فج يتعارض تماما مع فكر وروح ومنهج كل الأديان السماوية، فما بالنا بالدين الإسلامي آخر الرسالات السماوية، والجامع لكل ما قبله من الأديان السماوية وخلاصتها، ولا يُعقل منطقيا أن يأتي ضيقا حرجا!.
ويسرد التاريخ أن المتبنين لمنهج التكفير ليسوا إلا أولئك الغلاة الذين سوغوا لأنفسهم من خلاله ذات حماقة أفعال القتل والاستباحة والبربرية بأشكالها كافة لأقل وأصغر الأسباب، بغض النظر عن عواقب ومستقبل فعلتهم تلك، غير مدركين أنهم إنما يروجون لأخطر المناهج الفكرية على الإسلام وسماحته ومكانته كدين، ويصنعون أعظم الفتن في مسيرة الضمير الإنساني، وأعقد المجتمعات البشرية وأغربها والمتأثرة أجيالها المتلاحقة تربويا وفكريا بذلك الأسلوب والتناول، الذي يرفع بدوره من مستوى الروح العدوانية لديه، ويرهق الحياة الإنسانية الاجتماعية أيما إرهاق، ويفتح الباب على مصراعيه لظهور أنصاف العلماء ومطلقي الفتاوى التكفيرية على المختلف لا المخالف هنا وهناك! وليس أدل على ذلك في وقتنا الراهن، من ظهور بعض القائلين باتباعهم في ذلك لمنهج السلف، وما قال به شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ دون أن يدركوا أنه ربما كان مُبررا لبعض مواقف شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كعالم كبير، اعتماد الحدة في طرق وتقديم بعض المسائل الدينية المتعلقة بالجانب التكفيري، نتيجة لظروف عصره المليء بالقلاقل والمحن العنيفة، وحجم القتل والفساد الذي عاثه المغول في بلاد المسلمين حتى بعد إسلام كثير منهم، وما ترتب على تلك الممارسات والأفعال من استباحة للأنفس والأعراض، وانتشار للبدع والمخالفات البعيدة عن حقيقة صلب الإسلام وعقيدته، وهو موقف عالم بالدين وأصوله، فرضته وقائع معينة وفق شروط وبيئة معينة تزول بزوال ظروفه، ولا تشكل في أصلها عقيدة ومنهجا مستمرا، كما ظنه ويظنه حاليا بعض الغلاة ممن أساؤوا بدعواتهم وأفعالهم لعقيدة الإسلام ومنهج شيخ الإسلام "رحمه الله".
وجاء خطاب فضيلة مفتي عام المملكة العربية السعودية، سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، المدعم بالأدلة والبراهين من الكتاب والسنة، تبديدا لكل الاحتمالات والتأويلات فيما يخص المنهج التكفيري وأثره، والذي تنشأ على أساسه الفكري بعض الفرق والمجاميع المتطرفة والمتشددة دينيا، وهي التي تنطلق في أحكامها التكفيرية الإقصائية الشاذة، من مبادئ لم يعرفها الإسلام يوما حتى في أوقات الاختلاف الصعبة والطويلة بين علماء الدين الإسلامي.
لقد كنا بحاجة ماسة إلى تبيان حقائق تاريخية من شخصية مؤثرة لها وزنها في علوم الدين وتأثيرها في الرأي العام، كتلك التي أوردها سماحة المفتي في خطابه، لتستوعب الأجيال الحالية ماهية المنهج التكفيري الدخيل على الفكر الإسلامي، واضعا كثيرا من النقاط على حروفها، في ظل انفتاح العالم على بعضه، وسهولة إمكانية نشر الأفكار المنحرفة بين أفراد المجتمعات، ومحاولة اقتناص بعضهم لتسويق بضاعتهم عبر المواقع الحوارية على شبكة الإنترنت، الأمر الذي من شأنه زعزعة ثقة المجتمعات بعلماء دينها، والدفع بها إلى مربع الاقتتال والفرقة والعنف، وتشتيت الجهود الساعية إلى الارتقاء بالأمة الإسلامية إلى مصافي الأمم المنتجة والمؤثرة في النسيج الأممي لا المتأثرة.