أرجع الباحث غازي الملحم نمو الجوانب الفكرية في محافظة دومة الجندل وازدهارها منذ العصر الجاهلي إلى موقعها الجغرافي، وتواصل المنطقة مع حضارات متعددة. واعتبر الملحلم في افتتاح الجلسات العلمية لملتقى "سوق دومة الجندل الثقافي الأول" الذي ينظمه نادي الجوف الأدبي أول من أمس، أن تواصل أهالي دومة الجندل مع مجتمعات على قدر عال من التقدم الفكري والرقي الثقافي، والذين كانوا يرتادون سوق دومة الجندل في فترة الموسم، ساهم في اكتساب الناس العديد من المهارات الثقافية كالقراءة والكتابة والرياضيات، لدرجة أن دومة الجندل أصبحت مصدرا للكثير من علوم العرب.

وأشار الملحم خلال الجلسة الافتتاحية التي أدارها جمعان الكرت أول من أمس، إلى المؤرخ هشام الكلبي بهذا الخصوص، حيث قال: "كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم من كتب دومة الجندل، وكذلك عن طريق سوقها السنوي.. هذه المهارة الكتابية التي حظي بها سكان دومة الجندل ووزعوها لغيرهم من العرب ممن كانوا يأتون سوقهم". وذكر أن المؤرخين أكدوا أن أهالي دومة الجندل كانوا من أكثر العرب علما وثقافة ومدنية، وأن سوقها لم يكن مجرد مكان للبيع والشراء وحسب، بل كان تجمعاً علمياً وفكرياً، تعقد في رحابه الأمسيات الشعرية والمناظرات الثقافية، وهناك رواة قصص ونوادر، فيثاب المبدع و"يجاز" بجائزة عينية وأخرى معنوية تقدم له من قبل سدنة السوق والمشرفين عليه.

كما استعرضت الباحثة سكينة المشيخص تجربة العرب في أسواقهم على نسق عكاظ ودومة الجندل وما تلاهما في المربد، وقالت: إن تلك الأسواق كانت منابر ثقافية متقدمة وسابقة للعصر الذي نشأت فيه. وقالت إنه ليس أفضل من أن يكون جمع الناس لإنتاج وإبراز جماليات الأدب والشعر والسرد وتبادل الفكر والمعرفة وتجويد الصنعة الأدبية في عمومها، وذلك "كان من الأدوار الثقافية الرائدة للأسواق العربية".

وفي الجلسة المسائية للملتقى في يومه الأول أوضح الدكتور محمد مظاهري أن المستشرقين لم يعطوا السوق حقه المرجو من أولئك الذين كشفوا العديد من أسرار آثار المنطقة العربية. وقال إن عناية المستشرقين بهذه السوق تمثلت في ذكره في ثنايا البعض من كتاباتهم تارةً، وفي تحقيق المخطوطات العربية التي تحدثت عنه ومن ثم نشرها تارةً أخرى، مشيراً إلى أن مصادر معلومات المستشرقين عن هذا السوق لم تتعد أمهات كتب القرن الثالث الهجري بأقلام عربية إسلامية، فلم يضيفوا إلى هذه المصادر أي مشاهدات أو ملاحظات شخصية.

من جانبه، استعرض الدكتور إبراهيم الدهون الحياة العلميّة والفكريّة لسوق دومة الجندل، وقال إنه ظهرت عوامل متعددة ومتباينة كان لها دور في نمو الحياة الثقافيّة بدومة الجندل عامّة والسّوق خاصّة، مما دفع عملية التّطور الفكري والعلمي للمنطقة منذ العصر الجاهلي. وقال: إن ارتباط دومة الجندل بالحيرة وأهلها شكّل عاملا وثيقاً في تطورها، حيث إنَّ الحيرة من المراكز العلميّة المشهورة، إضافة إلى أنَّ أهلها يعرفون الكتابة، ويجيدون صناعة الخط. وخلص الدهون في دراسته إلى أن لسوق دومة الجندل ثقلا اجتماعيا كبيرا يتمثّل في التنوع البشري الوافد إليها، وفي المثاقفات الحادثة، لافتاً إلى أن السوق يعتبر من أقدم أسواق العرب زماناً، كما أنَّه من أكثر الأسواق ارتياداً لأهميته وتوسع محتوياته.