استهلك كثيرون عبارة ثوابت الدين واختلفوا بتحديدها وتحديد من يحددها، وهذا التضارب ينم عن عدم وضوحها، وإن كنا نعتقدها ونتشربها، أو ينم عن العجز عن التعبير عنها، فالثوابت الحقيقية لا يختلف حولها ولا تثار حولها مثل هذه الاسئلة، بل ربما من هو خارج الإسلام لا يختلف مع المسلمين فيها أو في أغلبها، وإنما تثار الأسئلة حول المتغيرات التي أظهرت على أنها ثوابت، بل إن بعضها ربما أوهام وخزعبلات يضفى عليها صفة الثابت، وهذا مما ميع مفردة الثوابت وأخفاها، وهذه الثوابت هي الأهداف العليا من الأديان التي بعث الأنبياء من أجلها، من أجل نشر الحق والخير والوحدانية، وقد ذابت واختفت بسبب استهلاكها بداخل تلك الأحكام الجزئية المتناثرة عبر القرون الماضية، وهي غير متوقفة على النص، فحرمة شرب الخمر مثلا ثابتة قبل أن يرد النص بتحريمه، وإلا لأصبح الإسلام غير مهتم بحماية العقل قبل نزول النص المحرم.
إن هذا الخفاء يظهر بسبب بروز نوع آخر من الثوابت قد حل محلها على مستوى الخطاب والحضور الفكري، وهي الثوابت المتعلقة بحماية الإسلام والحفاظ عليه، فثوابت الحماية هذه لا تحدد ماهية الإسلام وقوامه كدين ذي رسالة وإنما تعرضه كسلطة أو كحارس أو مراقب لضبط الأشخاص بداخله، وهذه الثوابت الحامية هي ما يعبر عنها دائما بـ"قطعي الثبوت.. قطعي الدلالة"، أو ما به نص صريح، أو الثوابت التي لا يجوز مخالفتها، وكثرة تردادها هو ما يفسر التردد الهائل للمفكرين الإسلاميين في أطروحاتهم أكثر من الإقدام والإمعان في التغيير، منطلقين من النوع الأول لتلك الثوابت.
إن حالنا مع هذه النظرة كحال وزارة لها ثوابت، وهي الخدمات التي أنشئت من أجلها، ثوابت تحكم عمل الموظفين بداخلها ويمنعون من تجاوزها، ثم تأتي هذه الوزارة وتعرض ثوابتها المتعلقة بالضبط الداخلي على الملأ بدلا من الخدمات، حينها ستصبح رسالتها مبهمة وغير واضحة، ويصبح عمل الموظفين نكوصيا لا طليعيا، وهذا ما حدث مع الإسلام تماما، فبمجرد أن نسأل ما الثوابت يجيب الكثيرون بتلك العبارة ولا يذكرون الثوابت التي أراد الإسلام نشرها في البشرية، وهذه الأخيرة يسمونها برسالة الإسلام أو أهداف الإسلام أو أي مصطلح ذي صبغة أدبية لا تتمتع بالصرامة في المخيال الشعبي كمفردة "ثوابت الإسلام". أو يعرفها بعضهم بما يكفّر الإنسان إذا أنكرها وما لا يكفره، مع أن الكفر للتكذيب لا للأهمية الدينية فقط، أي إن الكفر أتى من تكذيب النص، وعليه فحجم وقوة الدلالة اللغوية أو وسيلة الثبوت للنص ليسا معيارا للثابت والمتغير باعتباره رسالة، فحرمة قذف المحصنات أو التولي يوم الزحف من الثوابت المحمية لا الرسالية، لكن رفض العنصرية أقل باعتبار الدلالة اللغوية والثبوتية، ولكنه كقيمة رسالية للإسلام هو أعظم منهما.
إننا بتعرفنا على الثوابت الحقيقية الرسالية نؤكد على تماهي الإسلام مع القيم ومع الانسانية، ولكن وبسبب قصرنا للنظر الديني على النص الوارد ليحدد أحكام الإسلام فإننا نجد أن الأهمية قد ارتبطت به أكثر من القيمة، وارتبط أيضا معنى ومفهوم تطبيق الشريعة بالنص المكتوب أكثر من القيم والمعاني السامية، مع أن الإسلام يترك هذا المعنى ولا يذكره لعلم البشرية به، فلا يورد به نصا ولكن المسلمين وبسبب قصرهم الإسلام على ما ورد يقللون من أهميته.. فمثلا نجد أن الخنزير محرم بنص والحشرات الضارة لم تحرم بنص بنفس قوته الثبوتية والدلالية، فاعتقد كثيرون أن الخنزير أكثر حرمة لورود نص به، واعتقد كثيرون أن البيع متفاضلا بخمسين أو مئة ريال أشد تحريما من البيع بأسعار مرتفعة للسلع الضرورية، لأن التفاضل ربا وأكثر تحريما، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، وهذا أدى إلى اختلال مبدأ الأولويات، وما يجب أن ننشغل ونهتم به، ليس في الشريعة فحسب، بل في كل مناحي الحياة، فإذا كان أساس المجتمع غير منضبط عقلا فلا شك أن الباقي.. من باب أولى.