في ربيع الأول 1423 (مايو 2002)، اعتُمدتْ "استراتيجية التخصيص" في المملكة العربية السعودية، وتضمنت تحويل إدارة قطاعات خدمية هامة إلى القطاع الخاص. وتم بالفعل تخصيص قطاعات الكهرباء والمياه، والهاتف، واستحوذ القطاع الخاص على نصيب متزايد في مجال الخدمات الصحية والتعليمية، كما تم تخصيص بعض خدمات المرور، مثل رصد وتحصيل غرامات السرعة وتقارير الحوادث. واستهدفت الاستراتيجية رفع مستوى الخدمات التي تقدمها الجهات الحكومية وتخفيض تكلفتها، وتحسين كفاءة الاقتصاد، وزيادة فرص العمل للمواطنين ورفع مستوى دخلهم.
وينتقد البعض بطء سير عملية التخصيص، ويدعو إلى سرعة استكمال تنفيذ الاستراتيجية. ولا شك أن للتخصيص فوائد ملموسة حين يتم بالطرق الصحيحة، ولكن، بعد مرور عشر سنوات، فإن أداء المرافق التي تم تخصيصها يجعل من الضروري تقييم التجربة، لا لوقف التخصيص، بل للتأكد من الالتزام بروح الاستراتيجية، خاصة تحسُّن أداء المرافق والخدمات التي يتم تخصيصها.
فلكي يكون التخصيص ناجحاً، يجب أن يكون مقروناً بمعايير أداء وحدود دنيا لمستوى الخدمات، تتم متابعة تنفيذها من قبل جهات رقابية قوية ومؤهلة، تقوم بمحاسبة المرافق المخصصة، وهو ما ليس متوفراً في الواقع.
وقد جاءت حملة التخصيص في المملكة متأخرة نسبياً، وكانت امتداداً لحركة عالمية بدأت في الثمانينات من القرن الماضي، وقادتها الولايات المتحدة (تحت إدارة رونالد ريغان)، والمملكة المتحدة (مارغريت ثاتشر)، وسعت إلى تقليل دور الحكومة في الإنتاج وتقديم الخدمات. ففي بريطانيا، كان للحكومة دور كبير في القطاعين الصناعي والخدمي، ولذلك تم بين عامي 1979 و1987 بيع وتخصيص الخطوط الجوية البريطانية، وشركة البترول، ومصانع الطائرات (بريتيش أيروسبيس)، وشركة الغاز، وشركة روفر- ليلاند للسيارات، وشركة الحديد والصلب، وشركة الاتصالات، وشركة رولز رويس. وامتدت عملية التخصيص في أميركا لتصل لإدارة السجون وأعمال الشرطة. وانتشرت حُمّى التخصيص إلى معظم مناطق العالم، بين الدول الصناعية والدول النامية سواءً.
ومنذ البداية، لم يكن الجميع متحمّسين للتخصيص. ففي بريطانيا وأميركا – قائدي الحركة – كان التخصيص محل انتقاد، ليس من قبل اتحادات العمال والمحامين عن الفقراء فقط، بل من قبل بعض أعضاء البرلمان قادة الحزبين الحاكمين فيهما. ولذلك أبقت كل منهما على دور الحكومة والقطاع الخيري غير الربحي في مجالي التعليم والصحة، وحدّا من دور القطاع الخاص فيهما.
وبعد مرور ثلاثة عقود على تجربة التخصيص، ظهرت محاذير كثيرة لم تكن واضحة، ومن أهم ما أظهرته التجربة:
أولاً: أن تخصيص مرفق عام أو خدمة لا يضمن تحسين مستواهما، أو تخفيض التكلفة، ما لم يكن التخصيص مصحوباً بمعايير تحدد مستوى الخدمة والتكلفة، وما لم تكن هناك جهات رقابية قادرة تشرف عليه.
ثانياً: ثمة قواعد لمحاربة الفساد في المرافق الحكومية، ولكنها مرنة في القطاع الخاص، فكثيرا ما تسمح للعاملين بتلقي الهدايا أثناء أداء عملهم، وتقديمها للآخرين (غير مسؤولي الحكومة) مهما كانت ثمينة. ويوفر عدم الالتزام بالشفافية في المرافق المخصصة بيئة خصبة للفساد.
ثالثاً: تلزم القوانين والأنظمة المرافق الحكومية بالحفاظ على الموارد الطبيعية والمصلحة العامة، وفي المقابل لا تتقيد الشركات الخاصة إلا بمصلحة ملاكها وزيادة أرباحها.
رابعاً: تهديد الأمن الوطني حين تقوم شركات خاصة بإدارة مرافق حساسة، مثل عمل الشرطة وصيانة المنشآت الاستراتيجية والحساسة.
خامساً: إمكانية حرمان المواطن من بعض الخدمات الأساسية، مثل توصيل مياه الشرب، في حالة وجدت الشركة الخاصة أن ذلك ليس مربحاً.
سادساً: قد يؤدي التخصيص إلى احتكار شركة أو فرد معين لتقديم الخدمة، مما يُسهم في تردي مستوى الخدمة ورفع التكلفة، فضلاً عن آثاره على السلم الاجتماعي وتوزيع الثروة.
سابعاً: غالباً ما يؤدي التخصيص إلى تقليل فرص العمل للمواطنين وتخفيض أجور العاملين منهم في القطاعات المخصصة.
وفي معظم القطاعات التي تم تخصيصها في المملكة، ارتفعت الشكوى من سوء الأداء وضياع المسؤولية. ولنأخذ المياه على سبيل المثال، حيث استفحل نقص مياه الشرب بعد التخصيص، فبالإضافة إلى المدن التي كان نقص المياه فيها شائعاً، مثل جدة، أصبح انقطاع المياه عن المنازل شيئاً معتاداً في العاصمة الرياض، وهناك أحياء لا تصل إليها المياه على الإطلاق.
وفي التعليم الخاص، ترتفع شكوى الآباء من ضعف المستوى وارتفاع التكاليف وعدم وجود آليات فعالة للرقابة ومحاسبة المقصّرين. وفي حديث لي مع أحد كبار المسؤولين وخبراء التعليم، وهو أيضاً من المستثمرين في هذا القطاع، انتقد تجربة التخصيص وقال "إن النموذج الربحي في التعليم قد أثبت فشله التام".
وفي قطاع الصحة، أصابت كثيراً من المستشفيات والعيادات عدوى الخدمات السيئة، وفيروس الشهادات الضعيفة. ففي سعيها لتخفيض التكاليف وزيادة الأرباح، توظف تلك المستشفيات أطباء وممرضين ذوي مؤهلات مشكوك فيها، ويشتكي الأطباء في القطاع الخاص من الضغوط عليهم لمعاينة أكبر عدد ممكن من المرضى خلال الوقت المتاح، ووصف عمليات جراحية ليست ضرورية، مما ينعكس سلباً على مستوى العناية بالمرضى. وعلى سبيل المثال، في زيارة إلى أحد أشهر المستشفيات الخاصة بالرياض قام طبيب الأسنان بتركيب ثلاث حشوات في أسنان ابني الذي لم يتجاوز التاسعة، خلال (12) دقيقة! ثم غادر الغرفة مسرعاً، ربما إلى غرفة أخرى ينتظره فيها مريض آخر.
ومن المؤسف أن التخصيص لم يسهم في توفير وظائف للمواطنين، وكانت دراسة حكومية قد حذّرت من الآثار السلبية للتخصيص على فرص توظيف المواطنين، وهو ما أثبتته التجربة في بعض القطاعات المخصصة، حيث انخفضت نسبة المواطنين فيها.
هذه بعض الأمثلة التي تشير إلى محاذير عمليات التخصيص، ولكنها يجب ألاّ تصرفنا عن الاستمرار فيه، واستكمال تنفيذ "استراتيجية التخصيص". لكن الدروس المستقاة خلال العقد الماضي تُظهر الحاجة إلى تشديد الرقابة، بحيث تتحقق الجهات الرقابية من قيام المرافق المخصصة بالحفاظ على مستوى مقبول من الخدمة، وتكلفة معقولة.
ويجب ألاّ نترك الأمر لـ"آليات السوق"، التي تفشل أحياناً، خاصة في سوق الخدمات المعيشية الأساسية، حيث تقل أو تنعدم المنافسة بين مقدمي الخدمة، وتشحّ المعلومات التي يحتاجها المستهلك لاتخاذ القرار المناسب.