دخلت المحاضرة فإذا بي أرى أن إحدى الطالبات قد فصلت جهاز العرض لتشحن "جوالها"! لقد أصبح شحن "الجوالات" في غرف المحاضرات ظاهرة لدرجة أنها أحدثت يوما ضغطا على الكهرباء في المبنى فأدى إلى انقطاع الكهرباء، المهم هنا أنني طلبت من الطالبة أن تسحب جهازها كي أبدأ بمحاضرتي فما كان منها إلا أن "لوت البوز" وكأنني تعديت على حق من حقوقها، وبما أنني لا أريد أن أخسر انتباه أي طالبة أخرجت جهاز الشاحن من حقيبتي وقدمته لها قائلة: "يمكنك استخدام هذا لشحن جوالك"، تناولته من يدي وعادت إلى مقعدها، ولكن.. في نهاية المحاضرة عندما طلبت "الشاحن" فوجئت باعتراضها: "ولكنه لم يشحن للآخر بعد"! هنا تمالكت نفسي وأجبتها: "معليش أريد أن أعتذر منك.. مضطرة أمشي"، وسلمتني الجهاز دون حتى كلمة "شكرا"!
هنا أخذت أفكر بالتغير الكبير الذي طرأ على طالباتنا في الحرم الجامعي، أصبحنا نسير بين رؤوس منكسة في الأروقة والساحات، الأغلبية منشغلات بأجهزتهن وبما يدور عليها من حوارات! لكثرة تمسكهن بهذا الجهاز تكاد تظن أنه جزء من الجسد، أخاف يوما أن يتخلين عن أياديهن ويركبن تلك الأجهزة بدلا منها خوفا من الابتعاد عنها! أصبحت الحوارات والتواصل الشخصي من النوادر وإن تم يكون بالحديث حول آخر ما ظهر على تلك الشاشات الصغيرة!
في إحدى محاضراتي ونحن نتطرق لموضوع التواصل وأهميته بالنسبة لبناء الشخصية وتقوية العلاقات الأسرية والاجتماعية، قلت: "لماذا لا تنظرين لمن حولك وتحاولين التواصل معهن وجها لوجه؟ ألم يخطر ببالك أن من تتواصلين معها في أحد مواقع التواصل الاجتماعي قد تكون إحدى الطالبات هنا، وقد يصدف أن تمر من أمامك وتنعطف إلى ممر آخر ولا تعرفي أنها هي من يقدم لك الدعم من خلال تواصلها؟! نعم إن نسبة حدوث ذلك ضئيلة جدا ولكنها غير مستحيلة!" لماذا يجب أن نسير وأعيننا إلى الأسفل نبحث عن التواصل بينما يمكننا أن ننظر أمامنا وقد نجد ما نبحث عنه مباشرة وشخصيا، وليس بأبعد من بضع خطوات!
لا أحد ينكر فوائد التكنولوجيا التي قدمت طرقا كثيرة سريعة وفاعلة في عالم التواصل، بحيث مكنتنا من التواصل مع أفراد الأسرة، خاصة من هم في مدن أو بلدان بعيدة، من خلال الرسائل النصية، سكايب، كاميرا الإنترنت، الفيسبوك، تويتر ورسائل البريد الإلكتروني، ولكن يجب ألا يأخذ مكانة التواصل المباشر من خلال السيطرة التامة على جميع أفراد الأسرة، فتجدهم في غرفهم مع أجهزتهم، وحتى إن اجتمعوا في غرفة واحدة كلّ عينه أو أذنه مع جهازه، ليس هذا فقط بل في المكاتب، في غرف الانتظار، وفي الأسواق، حتى في المدارس والجامعات، كنا يوما نميل إلى من يصدف أن يكون جانبا ونبدأ محادثة.. أي محادثة لممارسة مهاراتنا في التواصل، واليوم أصبح من الصعب الحديث مع أي فرد خارج تغطية أجهزتنا، فكيف بأفراد مقربين من أسرتنا يجمعنا سقف واحد! وهذا يعد أمر كارثيا للأسرة ومفهومها كنواة تأسيسية في أي مجتمع، بحيث تأخذ الحيز الأكبر من انتباهنا ونهمل التواصل الشخصي مما يؤدي إلى ظهور الفراغ العاطفي الذي بدوره يدفع تدريجيا إلى انعزال الفرد اجتماعيا، متصلا فقط بعالم افتراضي يبحث عبر أثيره عما ينقصه من اهتمام: تعاطف، تفهم وحوار، وقد يصل الأمر بعدد لا بأس بهم إلى الدخول في حالات الاكتئاب والانفصال الكلي عن عالم الواقع من حولهم.
نعم لقد أصبح العالم قرية صغيرة بفضل التكنولوجيا، وإلى وقت قريب كان يتم التواصل مع غرباء من حول العالم في غرف الدردشة، ولكن مع أجهزة التواصل الحديثة تم ربط الناس مع الذين يعرفونهم من أصدقاء وأفراد من الأسرة، ولكن الرسائل القصيرة الصوتية منها والنصية، أخذت حيزا كبيرا من التواصل الشخصي، أي بمعنى خسرنا الكثير من التفاعل البشري ومهما كانت الرسائل النصية معبرة أو جميلة أو حتى عملية، تظل بدون روح.. تفتقر إلى العاطفة، بل إنه في الكثير من الأحيان يساء تفسيرها، هذا إن لم تحور وتأخذ التواصل إلى منعطفات خطرة!
لقد أهملنا مهارات التواصل الشخصي حتى كلمات مثل "شكرا" و"من فضلك"، أصبحت غريبة على قاموس التواصل الشخصي، نعم في مواقع التواصل الاجتماعي نحن في قمة الأدب والذوق، ونمتدح الآخرين وندعمهم بكل ما نملكه من مخزون مفرداتنا اللغوية، بل نضيف صور وأيقونات التعابير، خاصة أيقونة "لايك"! ندعم ونتثقف ونمارس حرية الفكر والرأي وكلها من ميزات التواصل الاجتماعي، ولكن بالمقابل أهملنا مهارات التواصل الشخصي بين أفراد الأسرة لحد أنه أصابها الصدأ، والخوف أنها ستقضي على ما تبقى من الترابط الأسري في مجتمعاتنا، وتتسع دائرة الفراغ العاطفي، ويستعر البحث عمن يملؤها... ونصبح غرباء حتى عن أنفسنا!
لن تختفي التكنولوجيا ولن تتبخر الأسرة، ولكن ما نريده هو توعية لأهمية التواصل المباشر، في بناء شخصيات الأبناء وحمايتهم من الانحراف لا سمح الله، وفي تقوية العلاقة بين الزوج والزوجة، وفي دعم الروابط الأسرية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وقبل فوات الأوان.. ما نريده هو التحكم وليس الإسراف.. فبالنهاية من يبتعد رغم وجوده لن يؤثر غيابه وبالتالي لن يتمكن من التحكم في بناء الأسرة، فلنتعلم متى نفصل كي نتواصل مع من هم أهم الناس.. أعز الناس في حياتنا.