الإنسان بطبعه متمرد يكره القيود ويسعى دوما لكسرها، وهذه فطرة بشرية متمكنة في طبيعة النفس البشرية، وضعها الله سبحانه وتعالى فينا؛ كي يختبر قوة الإرادة وكبح جماح النفس "فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى" الآية. وكبح جماح النفس من أهم صنوف الجهاد.
فهل قاوم أحد من أبنائنا شهوة التمرد على الذات؟
أعتقد أنها مهمة صعبة ومضنية في زماننا هذا، خاصة في هذه الحقبة المفصلية الحرجة من تاريخنا. فالهوى هو من وظائف النفس المتمردة، وقد صنفه "فرويد" على أنه الأنا الدنيا والتي تجذب الأنا العليا نحو الرغبات. وينشأ حينها ذلك الصراع بين تعارض الرغبات سواء على مستوى النفس أو على مستوى المجتمع. أما "هربرت ميد" فيرى أن الذات تشمل العقل والنفس؛ لأن الذات الفاعلة ـ حسب رأيه ـ تعمل على التآزر مع العقل البشري، ومن هنا ينشأ التفاعل، وبذلك يرى أن الذات تسبب حالة من الصراع بين الفرد والمجتمع. لكنه أوضح بأن "الأنا" لا تخضع دائما لسيطرة أو ضبط الذات الاجتماعية، بدليل أن الإنسان يخترق القواعد الاجتماعية، ويسلك سلوكا قد لا يتوقعه الآخرون منه. إذا فالذات عند "ميد" هي الفرد عبر علاقاته التبادلية مع الآخرين. وما يهمنا في هذا الأمر هو طبيعة التفاعل بين الفرد والجماعة، بين الذات والمجموع؛ لأننا في الوقت الراهن نعاني من تلك الهوة السحيقة بين الأنا والآخر، والتي تجذب الفرد بعيدا عن الجماعة بشكل مقلق للغاية، في مجتمع تربى على الفاعلية الجماعية في صلب تكوينه.
غريب هذا الصراع بين النفس والهوى، وبين الرغبات والأهواء!، لا يحكم قبضتها سوى الرقي الأخلاقي ومتابعة القيم والحفاظ عليها "الوعي"، فالقيم الاجتماعية قد تبدو عتيقة وممهورة بخاتم التخلف إذا ما نظر الفرد وتطلع إلى عادات وقيم غير عربية تدفقت عبر نوافذ جلودنا لتصيب خلايانا بالتفسخ، ولا تصيب منبتها؛ لأن طينتها طينة متلائمة مع ما تنضح به الجذور، وبالتالي ينتج ذلك الصراع لدينا سواء كان على المستوى الداخلي للنفس أو على المستوى الخارجي في شكل التفاعل الاجتماعي!، وبطبيعة الحال ندرك هذا التهرئ بين الذوات، وفي الوقت ذاته نجد العناء والاستنكار ونبذ كل هذه الأوضاع، فمن أين نتج تصادم الفعل الذي هو استجابة في اللحظة ذاتها؟! لعل أقرب الإجابات هي طبيعة العربي وتكوينه الاجتماعي، وكل ما دونته ردهات الكتب من المروءة والشيم، وفي الوقت ذاته هناك ثوب قشيب يرتديه حسبما تسرب إلى أعماقه من الدائرية في السلوك "في شكل دوائر متماسة ولكنها غير متقاطعة" وهنا تكمن المشكلة، فيما نراه من تضرم وسأم وملل ومعاتبات وانحسار في التفاعل بين الأفراد؛ لأن الشخصية العربية صعبة يستحيل تغيير تكوينها، صلدة مقاومة بل شديدة المقاومة، وفي الوقت ذاته تسلك سلوكا فرضه عليها ذلك التفاعل الجديد، وعليه ينشأ الصراع الداخلى والخارجي، صراع بين الذات. فالذات التي تعقل وتفكر حسب تطوير الوعي حسب رأي هربرت ميد هي نفسها الذات الفاعلة فهي فاعل ومفعول! وبالتالي تصبح هي نفسها استجابة لاتجاهات الآخرين! ومن هنا تكون محطة لأفعال الذوات الخارجية التي قد تحدث ردودا متفاعلة بين الأطراف؛ فيقول ميد: "إنها حصيلة تفاعل بيولوجي واجتماعي".
ومن ذلك كله نرى أنه يسود الأفراد المجتمعية لدينا نوع من الانكفاء على الذات، وهذه مشكلة خطيرة على اللحمة الاجتماعية في بلادنا! فعلى سبيل المثال "إفشاء السلام" يعد من خصال المسلم التي أوصانا بها ديننا الحنيف، فالسلام هو اسم من أسماء الله الحسنى، وعلى المستوى المجتمعي هو وسيلة اتصال تحتوي على الأمان والمحبة، هذا على المستوى اللفظي، وكذلك على المستوى الفعلي "الابتسام" إذا هو فعل إشارة من أدوات التواصل، وفي بلادنا يعد السلام هو البديل الفعلي للابتسام في البلاد الأخرى، إذ نجد الفرد منهم يحرص على الابتسام لكل من يقابله حرصا يجعل مجتمعاتهم متوائمة ومحبة ومريحة للغرباء الذين يفدون إليها، بينما نجد السلام الأداة الفعالة في التفاعل الاجتماعي لدينا أصبح أمرا شحيحا، فإن ألقيت السلام على شخص ينظر إليك شذرا ويتساءل: "اش يبغى مني.." حتى لو كان من قاطني العمارة التي تسكنها أو جليس مقعد قريب!. توجس، وخوف، وتساؤلات، ونظرات، تلاحقك أينما ذهبت، لا لشيء سوى أنك إنسان عادي تبتسم وتفشي السلام وتحاول التفاعل مع الآخرين!.
من أين أتى لنا هذا السلوك التوحشي؟ الخوف من كل شيء! من العين، الحسد، من معرفة انتقال الخبرات، من سوء الظن في غض النظر، من كل التفاصيل الدقيقة، لتكبر كرة الثلج فيصبح الملل والسأم والضيق، والانعزال سمة المجتمع، فنرى كيف ينتظر الفرد مواعيد الإجازة وينطلق بعيدا عن الوطن عله يجد شيئا من الحميمية والأنس من أناس آخرين وفي بلاد أخرى تجيد التواصل والاتصال، ولذا تعد معدلات السياحة في الخارج أكبر نسبة منها في دول الخليج! وحتى السياحة الداخلية نجدنا في دوائر منفصلة، وكأن الفرد يحيا في أدغال أفريقيا، فلا ينقصه سوى قفص حديدي يحميه من الآخرين!، ومن هنا يصبح الفرد رقما في كتلة! وهي فلسفة العصر الحديث "التشيؤ". حينما يصبح الفرد رقما، يصبح شيئا، يصبح سلعة، مادة للتداول!، ويرى "جارلس كولي" أن التفاعل "الديالكتيكى" بين البشر يعمل على تفاعل عنقودي فعال ومثمر، فيقول في هذا الصدد: "الشخصية هي نتاج للجماعات الأولية التي يتفاعل فيها الإنسان، وهي تنمو وتتطور بفعل شبكة العلاقات الاجتماعية؛ فالذات تتولد تلقائيا نتيجة لعلاقة الفرد بالمجتمع؛ لأن لديها قابلية كبيرة للخلق والإبداع" وبالتالي يرتبط الإبداع ارتباطا وثيقا بذلك التفاعل واتساع شبكة العلاقات؛ لأن الإبداع هو سر نهضة الأمم وتحضرها.
إن ذلك الجنوح المخيف للانزواء في مجتمعاتنا، والتحفز والخيفة من الآخرين، بحديث نفس داخلي قد لا يكون له وجود في حقيقة الأمر، هو أمر مخيف ومدمر، وهادم لكل تطور وإبداع، أعدم الأنس في النفس وفي المجتمع، الأنس الذي أصبح نادرا.