قد تكون النظرة سوداوية في بدايتها من قبل الشارع، أو حتى الناس أنفسهم، الذين يحمل غالبيتهم صورة تميل إلى الحكم بالجريمة ونسبتها إليهن - دون ذنب منهن - غير أن القدر كان شاهدا في لحظة ما، وكان ما كان، ولكن الأمر سرعان ما يتغير إذا ما زار أحدنا دار التربية الاجتماعية بالأحساء، التي تسكن فيها نحو 90 فتاة هن في عمر الزهور، منهن من أنهت دراستها الجامعية بمرتبة الشرف، ومنهن مَن تنتظر التخرج، لتصبح جزءا من نسيج هذا المجتمع.

"الوطن" قضت نصف نهار في "الدار" محاورة ومستمعة لهموم وتطلعات "القوارير" اللاتي ثبتنَ أمام أعتى الصدمات، وصمدن بقوة الجبل أمام الرياح، التي لاحقتهن منذ الولادة، وتغلبن على السؤال المر المؤلم: من أين جئتِ؟ قولي ما اسم أمك؟. وهي لا تعرف الجرحَ الذي ستضيع فيه مرتين.


نافذة الدار


عند دخول "الوطن" في الدار، برفقة المديرة نوال المنقور، والمساعدتين فاطمة الحارثي وآمال المنقور، كان الجو مليئا برائحة الأنوثة البريئة، فهناك 90 فتاة جئن من آباء خطائين وأمهات افتراضيات، وكبرن ولم يرونهم. كانت هذه الصورة كفيلة بأن نرى مجتمعا متشردا فوضويا، لا يبالي بشيء، ولكننا فوجئنا بأننا أمام أسرة واحدة، دبَّ فيها الأدب والأخلاق والعلم والنظافة والترتيب، كما هو حال كل أسرة مستقرة. الحشمة والعفة والستر لم يكن مصطنعا، اللغة الراقية كانت سمة تميز تلك الفتيات، اخترنا أسماء عشوائية، للحديث معهن، وكانت النتيجة واحدة: "نحن بشر نخاف الله، فلا يقسو علينا الناس الذين لا نخشاهم". استغرقنا في الحديث زهاء 4 ساعات، والهموم لم تنتهِ والطموح والتطلعات في المقدمة.





الإخبار بالواقع


وأوضحت المديرة نوال المنقور أن إخبار الفتيات بواقعهن يتم بالتدرج وفق خطة زمنية تبدأ من سن السابعة، وهذا أفضل شيء، وتستخدم الطريقة حسب سن الفتاة حتى إذا كبرت وفهمت أكثر تقبلت ذلك، حتى لو كان الإنكار أقرب لهن من الواقع، وحوارنا معهن خفف الكثير مما يحملنه، ولكن الحقيقة التي روتها ماجدة عبدالمجيد لـ"الوطن" أنها تقبلت ذلك عن طريق التصالح مع الذات، وقالتها بكل شجاعة: "لا ذنب لنا لو افترضنا أننا جئنا بذاك الاختيار، فلن يحاسبنا الله على ذنب فعله غيرنا، والله وحده الذي سيجزينا خير الجزاء على تقبل هذا الابتلاء والصبر عليه". واليتيم هو يتيم الهدف وليس يتيم الأب والأم، ووجهت رسالتها للمجتمع "نحن بشر مثلكم أيها الناس، صبرنا على روعة هذا الابتلاء".

وأكدت المنقور أن الدار تستقبل الفتيات من سن السابعة بعد أن يكملن تلك الفترة في دار الحضانة بالدمام، وخلال بقائهن في الدار تقدم لهن الرعاية الكاملة بدءا من الدراسة في المراحل الثلاث - في مدارس التعليم العام - وحتى الدراسة الجامعية، وهناك من تخرج منهن في التخصصات المختلفة مثل الإنجليزية وعلم الاجتماع واللغة العربية وغيرها، وبعضهن تدرس الفتيات داخل الدار، وغيرهن ممرضات بكفاءة عالية.


أنشطة متنوعة


وتشير المساعدة فاطمة الحارثي إلى أن الدار تقيم لفتياتها أنشطة متنوعة من الرياضة والبرامج التثقيفية ومحاضرات وندوات في أوقات منظمة، وهذه البرامج آتت أكلها ضعفين من حيث الاتصال بالمجتمع الخارجي عن طريق الأسر الصديقة التي تستضيف الفتاة لمدة معينة، وتفاعل الفتيات بمعرفة ما يدور حولهن. وعمدت إدارة الدار إلى تقسيم البرامج لقسمين ترفيهية وتشمل التسوق والزيارات وغيرها، وتربوية التي تركز على الدورات الأكاديمية بالتعاون مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لمدة خمسة أيام كل أسبوع وفق برامج منسقة: حياتية، دينية، ثقافية، رياضية، موضحة أن هذا الاستثمار للوقت من قبل الفتيات كان فاعلا ونموذجيا، حتى من خلال صقل المواهب الذي أنتج فنانات تشكيليات وأديبات واعدات وحرفيات ومنشدات وغيرها، مشيرة إلى الفتيات يستلمن مكافآة خاصة بهن حسب المرحلة الدراسية، ونصفها يستثمر لهن.


شروط تزويجهن


وحول شروط التزويج أوضحت المساعدة آمال المنقور أن هناك اشتراطات لا تتنازل عنها الإدارة لمن يرغب في الزواج من هؤلاء الفتيات، أولها حسن السيرة والسلوك، وشهادة إمام الجامع له بأداء الصلوات الخمس في المسجد، إضافة إلى توفر شروط أخرى من خلال الاستمارة الخاصة بعقد الزواج التي تشرف عليها لجنة الفحص، وتطابق التحاليل، فلا يظن أحد ولو للحظة واحدة أننا سنفرط في بناتنا لأقل الأعذار، موضحة أن الرجال الراغبين في الزواج يأتون إلى الدار مباشرة أو عن طريق جمعيات أو مكاتب الإشراف الموجودة في المملكة، والأهم من ذلك مقابلة المتقدم وتفهمه للوضع، ثم ينظر في الأمر من قبل القاضي في المحكمة بحكم ولايته الشرعية على الفتاة، وهناك أسر تتقدم أيضا لطلب فتيات الدار، مشيرة إلى أن الدار زوجت أكثر من 20 فتاة خلال السنوات الماضية.


حديث الفتيات


ولم تخجل الفتيات هناك من الحديث لـ"الوطن" بأسمائهن الحقيقية، ولم يمانعن من الظهور بالصورة الصريحة لهن، فكلهن قبلن التصوير طوعا وحبا، وهن أردن بذلك أن يُعرفن في المجتمع بأنهن أبناء هذه البلاد الرحيمة بهن، على أمل أن تتغير الصورة الضبابية العاتمة حولهن من قبل الناس، وجعلن أمنياتهن وطموحاتهن المستقبلية التي يحاولن نيلها، في مقدمة الحديث، ومن أهمها مواصلة الدراسة وخدمة المجتمع.

وقالت هند عبدالعزيز سعد: أحمل على عاتقي خدمة المجتمع الخارجي من خلال برامجي التي أتبناها، رغم أن ظروفنا ليست عيبا بل هي قدر. وتتطلع هدى عبدالمحسن إلى حلم الوظيفة بعد تخرجها، وخدمة كل يتيم أو يتيمة مثلي الذين جاؤوا إلى هذه الحياة حاملين ثقل ذنب لا دخل لهم به. وتمنت سلوى عبدالرؤوف أن تكون عضوا فعالا في المجتمع ومعروفة، و"أشارك في خدمة وطني عن طريق الوظيفة المحترمة".

أما صابرين عبدالهادي فتمنت أن تكون صحفية نظير ما تملكه من حس في هذا المجال، ولكنها تمارس تخصصها الآن كـ"معلمة علم اجتماع" وتدرس فتيات الدار. وتشاركها المعلمة مها التي تدرس اللغة الإنجليزية، وهما تطمحان لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه كما تفعل زميلاتهما من أصحاب الأسر المستقرة. وقالت ماجدة عبدالمجيد أتمنى أكون أسرة مستقبلا، ولم يقف طموحي عند هذا الحد، فربما أوفق للفوز بمقعد في مجلس الشورى.

ووجهن شكرهن لإدارة الدار على تذليل كل العقبات أمامهن، فمن خلال تعاملهن كـ"أمهات" لهن رأينا في ذلك شخصيتهن الحقيقية، حتى مفردة الأمومة لم يستطعن نسيانها، فينادين الطاقم الإداري: ماما نوال ماما فاطمة ماما آمال.