تحدثت في الأسبوع الماضي عن التغير المناخي الذي يعصف بمناطق العالم الواقعة في مناطق العروض الممتدة بين خطي عرض 12 درجة شمال و30 درجة شمال، وعلى وجه الخصوص في كل من باكستان والصين والهند وموريتانيا، والذي تسبب في تشريد الملايين من ديارهم، وقتل الآلاف، ناهيك عن الخسائر المالية التي بلغت بلايين الدولارات، ونحمد الله على أن مصابنا لا يقارن مطلقا بما حدث في هذه الدول التي نشترك معها في نفس العروض (خطوط العرض الجغرافية)، والسبب في ذلك يعود إلى عوامل مناخية معقدة، ولكن أستطيع القول إن الضغوط الجوية العالية النسبية التي تسيطر على وسط جزيرة العرب في هذه الفترة أي فترة الصيف تعمل كحائط تتحطم عليه جميع العواصف المدارية القادمة من بحر العرب، أضف إلى ذلك درجات الحرارة المرتفعة القياسية التي تسيطر على وسط جزيرة العرب في هذه الفترة أيضا من العوامل الأساسية التي تعوق تقدم العواصف المدارية من بحر العرب إلى وسط جزيرة العرب، وكلنا يتذكر العاصفتين (جونو وفيت) اللتين اجتاحتا سلطنة عمان حيث لم تستطع التوغل في جزيرة العرب بل انعطفت في اتجاه شمال الشرق صوب إيران، وفي بعض الأحيان ترتد هذه العواصف على أعقابها في اتجاه بحر العرب، أما ما يصيب الركن الجنوبي الغربي من جزيرة العرب من فيضانات ومعدلات هطول قياسية فيعود ذلك إلى عاملين أساسيين، العامل الأول هو تأثر مناخ هذه المنطقة تأثرا كبيرا بمناخ شرق القارة الأفريقية، أما العامل الثاني فهو التغير المطرد في سلوك الشريط الاستوائي الذي عادة ما يتسلل بعض بخار مائه وسحبة إلى المرتفعات الغربية في جزيرة العرب عن طريق حوض البحر الأحمر الجنوبي.
ويظهر أن هناك الكثير من المواطنين مهتمون بموضوع التغير المناخي وقد تلقيت العديد من الأسئلة عما أكتبه على صفحات هذه الصحيفة، فقد سألني سائل عن طبيعة هذه التغيرات المناخية هل هي تغيرات آنية خاصة بعام 2010م وأن الأعوام القادمة لن تشهد مثل هذه التغيرات؟ أنا لا أعتقد ذلك وأبني رأيي هذا على السلوك الشاذ للشريط الاستوائي الذي أثبت خبراء المناخ في جامعة واشنطن أن هذا الشريط الاستوائي الذي يحمل كميات كبيرة من بخار الماء يتقدم بمعدل كيلومتر كل عام جهة الشمال في فصل الصيف، وأثبتت هذه الدراسة أن هذا الشريط الاستوائي قد تقدم أكثر من 300 كيلو في الثلاثمئة عام الماضية، فطالما هذا الشريط يواصل تقدمه جهة الشمال في فصل الصيف، فهذا يعني أن تأثيره سيزيد من قوة ما يعرف بالرياح الموسمية Monsoon التي إليها يعزى جميع هطول الأمطار الموسمية التي تهطل على شبه القارة الهندية والصين والهضبة الأثيوبية وجنوب غرب جزيرة العرب، وبمعنى آخر أن حدوث الفيضانات سيستمر للعديد من الأعوام القادمة على هذه المناطق إلى أن يحدث تغير في سلوك الشريط الاستوائي! وهذا التغير لن يحدث في غضون سنوات قليلة قادمة بل سيستمر لسنوات عديدة قادمة! وهنا أحب أن أوضح نقطة هامة يجب أن نضعها في حسباننا عندما نتحدث عن التغيرات المناخية، وهي أن الشذوذ الواضح في سلوك الشريط الاستوائي يشمل جميع المصطلحات المناخية التي يتحدث عنها علماء المناخ مثل مصطلح النينو El Nino ومصطلح الأنينا La Nina والقطبية الثنائية للمحيط الهندي، فجميع هذا المصطلحات وغيرها تدور في فلك الشذوذ في سلوك الشريط الاستوائي. وأعود الآن لأنهي ما بدأته منذ أسبوعين على صفحات هذه الصحيفة فيما يتعلق بتكوين العصور الجليدية، التي يلعب الشريط الاستوائي دورا هاما في حدوثها، ولكن قبل أن أبدأ في الحديث عن بداية تكون حدوث العصور الجليدية أحب أن أقارن بين عمر الإنسان على الكرة الأرضية وعمر الكرة الأرضية نفسها، فجميع السجلات الجيولوجية المختلفة تشير بصورة قطعية إلى أن أول ظهور للإنسان ننتمي إليه
Homo sapiens على سطح الكرة الأرضية كان منذ حوالي ثلاثة ملايين عام تقريبا، أما حضارة الإنسان نفسه كما تشير سجلاته الحضارية المختلفة فلا تزيد عن ستة آلاف عام، فقارن أخي القارئ بين عمر الإنسان وحضارته بعمر الكرة الأرضية الذي يصل إلى حوالي 4.5 بلايين سنة، فأين عمر الإنسان وعمر حضارته من العمر المديد للكرة الأرضية، وعندما يأتي العلماء بنظريات وأحداث مدعمة بالبراهين العلمية الدامغة لأحداث حدثت منذ مئات الملايين من السنين على سطح الكرة الأرضية، يتشدق البعض دون علم برفض هذه النظريات، فعندما نحاول أن نخبرهم أن هناك حيوانات وأمماً من قبلنا قد سادت الأرض وانقرضت، وأن وجود الإنسان نفسه على سطح هذه الكرة الأرضية ما هو إلى نتيجة لانقراض هذه الأمم نتهم بأننا قوم علمانيون!!، مثل هؤلاء القوم هم من أعدموا العالم الإيطالي الجليل منذ أكثر من 500 عام تقريبا بعد اكتشافه للتليسكوب الذي أثبتت به كروية الأرض، والذي لعب دورا هاما فيما بعد في فهم التغيرات المناخية التي تحدث على سطح الأرض، عالم آخر هو عالم المناخ الصربي ملوتن ميلانكوفتش
Milutin Milankovitch عام 1904م الذي اكتشف أن العصور الجليدية تحدث في الكرة الأرضية وفق دورات زمنية معينة نتيجة لتغير موقع الأرض بالنسبة للشمس، ومما يؤسف له أن الكثير شككوا في نظرية هذا العالم الفذ، إلى أن أتى تلامذته من بعده ليثبتوا بالقرائن والأدلة صحة نظرية هذا العالم.
وإلى لقاء مع هذا العالم وقصة حدوث العصور الجليدية.