نادرا جدا، ما كتبت هنا كناقد إبداعي أو أدبي. لكن شابا أنيقا وصغيرا في السن والتجربة أدهشني وهو يسرق الألباب ما قبل البارحة مرتديا (بردة شباب عكاظ)، ثم يلقي مقطوعة شعرية تشبه كل فواصل الأدب: فيها الصورة المسرحية التي تحول كل بيت إلى صورة بصرية مثلما بها من النسب مع جماليات (النثر) السهل المتاح للهضم والفهم، ومثلما فيها أيضا من الحبكة القصصية السردية التي ابتدأت (قصة وطن) يبتدئ من عناء الرمل وبدائيته، وينتصف على همم الأجيال بتحويل (الصحراء) إلى منجز قبل أن يختم بصورة لعمق الطين وضحالة الماء: إنها هذه المملكة العربية السعودية.

جاء هذا الشاعر الشاب (الفجأة) من بين نخيل الأحساء، وله من اسمه وجذره وقريته دلالة وطنية مدهشة. استمعت إلى جواد حيدر العبدالله، وحين انتهى شعرت بالإحساس الأسطوري وكأني في عكاظ قبل أربعة عشر قرنا حين كانت قصائد الشعر تلتصق بذاكرة الرواة وكأن آذانهم أجهزة تسجيل تعيد القصيدة تلقائيا من أول مشافهة. وكل السبب أبسط مما كنت أتخيل وأنا الذي أعيش هذه الأيام بذاكرة طريدة شاردة: السبب لأن قصيدة جواد حيدر العبدالله لا يمكن أن تتفكك ولا أن تتجزأ. لا يمكن أن تحذف منها بيتا واحدا أو تختصر منها صورة بصرية واحدة. أما السبب الأهم فلأن كل القصيدة لا تشبه إلا الصورة التي أرادت رسمها بالضبط: وطن لا يمكن أن يتفكك أو يتجزأ، ووطن لا يمكن أن تحذف منه بيتا أو تختصر صورة أو تصادر منه جزءا أو جماعة أو مذهبا أو لونا أو عرقا أو سهلا أو جبلا أو.. أو.. أو...

استمعت إليه بكل الدهشة وكأنه في (الواقع) يرسم وطنه الخيالي الذي طارت به همم الرجال للخيال، ولكنه في (المجاز) يحدثني وحدي: أخي علي لقد حذرت ووضعت بين الأبيات (لازمة) الشرط:

وطن كالقمح (إن) أعطيته

نية الفلاح أعطاك غلاله.