وزارة الصحة كغيرها من الجهات الحكومية، لا تخلو من إشكاليات بيروقراطية تتمثل في وجود قيود مفروضة على هذه الجهات، تؤدي إلى اضمحلال السلطة الإدارية فيها، وهذه القيود تكون في الغالب غير معلنة ولا يتم الالتفات إليها.
فعند إخفاق الجهات الحكومية في تقديم الخدمات المطلوبة منها، تشير دائماً إلى عوامل خارج نطاق سيطرتها، أدّت إلى منعها من تحقيق أهدافها، لتخلي بذلك مسؤوليتها كاملة تجاه أية تقصير قد يحدث منها.
لنأخذ على سبيل المثال: قضية وفاة مريض السمنة "ماجد الدوسري" رحمه الله، التي تفاعل معها الرأي العام في المملكة، فقد تساءل الناس عن سبب عدم علاج "ماجد" وأخته "رنا" في الخارج، بالرغم من وجود أمر ملكي يقضي بتنفيذ ذلك؟
فكان رد "الشؤون الصحية" بالمنطقة الشرقية على السؤال السابق في بيان لها نشر في الوسائل الإعلامية بأنه: "جرى حجز موعد لهما في مستشفى "كليفلاند" بالولايات المتحدة الأميركية، إلا أنه تعذر نقلهما بواسطة "الإخلاء الطبي" للخارج نظراً لصعوبة حالتهما والسمنة المفرطة التي يعانيان منها، وبالتالي تم إلغاء المواعيد عدة مرات".
ومما سبق يتضح من بيان الشؤون الصحية، أن المشكلة تكمن في الإخلاء الطبي، ولكن البيان لم يوضح الأسباب بالتحديد في تعذر نقل "ماجد ورنا"، والسؤال المطروح هنا: هل المشكلة هي في إجراءات الإخلاء الطبي، أم تتعلق بالمخاطر الصحية للمريضين؟ وبعبارة أخرى، هل الشؤون الصحية واجهت مشكلة مالية وإدارية في عملية نقلهما بالإخلاء الطبي، أم أن الطائرات غير مجهزة فنياً، أم أن الحالة الصحية لا تسمح بنقلهما، وتوجد مخاطر قد تؤثر بالسلب على حياتهما؟ أم أن هناك عوائق نظامية لم تفصح عنها الشؤون الصحية؟
أشار البيان السابق، إلى أن الأطباء الذين تم استقدامهم من نيويورك، قرروا أن يخفض "ماجد" وزنه بحدود 70 إلى 80 كلجم، أما "رنا" فيمكن إرسالها إلى "نيويورك" لإجراء الجراحة على أن تنقل بالإخلاء الطبي، وكأن البيان هنا يوحي للقارئ بوجود شرط طبي (تخفيض الوزن) حتى يمكن نقل "ماجد"، فإذا كان ذلك كذلك فلماذا إذن لم تنقل "رنا" بناءً على توصيات الأطباء بالرغم من عدم وجود شروط طبية، والواضح من توصيات الأطباء أنه لا توجد عوائق أو مخاطر صحية؟
كما أن البيان ذكر صراحةً بأنه: "صدر لهما قرار من الهيئة الطبية العليا بتاريخ 19/12/1433، باعتماد علاجهما في أميركا، إلا أنه تعذر نقلهما بطائرات الإخلاء الطبي لأسباب فنية، وبحسب ما ورد من الجهات المعنية في 24/3/1434، أي بعد 3 أشهر من صدور قرار الهيئة، وهذا يعني أن حالتي "ماجد" و"رنا" وقعتا في فخ "البيروقراطية"!
لقد حاولت "الشؤون الصحية"، إقناع الرأي العام بأن حالة الفقيد "ماجد" كانت متأزمة وحرجة وهي السبب في عدم نقله بالإخلاء الطبي وسفره إلى أميركا، بينما لم تستطع تبرير عدم نقل المريضة "رنا" حتى هذا التاريخ، هذا بالإضافة إلى أن البيان أشار إلى وجود أسباب فنية تتعلق بالإخلاء الطبي إلا أن الشؤون الصحية لم تحدد هذه الأسباب بشكل واضح، ولم تحدد اسم الجهات المعنية بصراحة، التي خاطبتها بشأن ذلك.
في اعتقادي لو أنه تم نشر مضمون (خطاب الجهات المعنية) لا تضح الكثير من الأمور الغامضة في هذه القضية، ولربما أيضاً كشف عن المسؤولية المباشرة عنها، ويبدو أن هناك إشكالية بين "الصحة" و"الجهات المعنية".
فهناك احتمال بأن الإمكانيات الفنية لطائرات الإخلاء الطبي غير مهيأة لنقل "ماجد" و"رنا"، فإن ثبت ذلك، كان لزاماً على وزارة الصحة البحث عن بدائل أخرى لنقلهما وإبلاغ الجهات العليا بذلك، أو يحتمل أن يكون هناك سوء تنسيق بين الوزارة والجهات المعنية، أدى إلى التأخر في نقل المريضين إلى أميركا، أو أنه بالفعل حالتهما الصحية لا تسمح بسفرهما، وهذا الاحتمال ضعيف نسبياً وذلك لأن الواقع البيروقراطي يقول عكس ذلك.
فللأسف الشديد، هناك حالات عديدة تتعلق بتعامل بعض الجهات الحكومية مع القرارات العليا والاستثنائية، فكما ذكرت في مقدمة هذا المقال، هناك قيود غير معلنة لتعامل هذه الجهات مع القرارات الاستثنائية، فربما كانت هذه القيود تتعلق بأمور نظامية، الأمر الذي يعيق تنفيذ القرار برمته، فقد درجت العادة في الجهات الحكومية على التركيز على الوسائل والإجراءات مع إهمال الهدف الرئيس.
فكما هو معلوم أن القرارات الاستثنائية قد تكون لأسباب إنسانية، أو وجود مخاطر عالية نسبياً تتطلب معالجتها في أسرع وقت ممكن، وعند تنفيذ مثل هذه القرارات على أرض الواقع، فمن الطبيعي أن تواجه إجراءات التنفيذ بعض العوائق النظامية، إلا أن بعض الجهات الحكومية، تقف عند هذه الإجراءات بالرغم من وجود الصلاحية في تجاوزها.
فربما كان السبب عدم وجود مخصصات مالية كافية لتنفيذ القرار، فعند الطلب من وزارة المالية، في الغالب يتم النقل من بنود أخرى من ميزانية الجهة، والبعض يرفض مثل هذا الإجراء، ويطلب اعتمادا مالياً مستقلا ومخصصا لهذه العملية، أو أن تكون هناك مشكلة تنسيق بين الجهات الحكومية نفسها، أو أن هناك من يتمسك بإجراء بيروقراطي معين لإيقاف القرار بهدف تحقيق مصالح شخصية.
ووزارة الصحة في الحقيقة ليست بمنأى عن الوقوع في مثل هذه الأمور البيروقراطية، ومثل قضية وفاة "ماجد"، أرى ضرورة تدخل جهة مستقلة للتحقيق فيها، والجهة المخولة في هذا الأمر هي "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد" وذلك حسب الفقرة (1) من المادة الثالثة من تنظيم الهيئة، التي تتضمن أن من اختصاصات الهيئة متابعة تنفيذ الأوامر والتعليمات المتعلقة بالشأن العام ومصالح المواطنين بما يضمن الالتزام بها.