منذ سنوات وبعد أن تراجعت العواصم الثقافية التقليدية في العالم العربي، كما في بغداد والقاهرة والشام، كانت الثقافة السعودية عاملا مؤثرا ومهما وفاعلا في تشكيل المشهد الثقافي العربي على مختلف المستويات، الفترة اللاحقة لتلك الفترة شهدت بروز عواصم جديدة أحدثت تأثيرا مهما في الواقع الثقافي العربي، أسهمت وسائل الإعلام وطفرة الفضائيات في توسيع دائرة ذلك الحضور، وهو حضور إيجابي ومهم للغاية، خاصة أن الثقافة والفعل الثقافي العربي إنما يغذيان بعضهما البعض.
الواقع أيضا يؤكد أن ثمة تراجعا يسيرا شهدته الماكينة الثقافية السعودية، أسهم ذلك في غياب المؤسسة الثقافية المحلية ذات الدور العربي، إلا أن أفكارا ومبادرات انطلقت مع بداية الألفية الجديدة أعادت الدور السابق إلى موقعه الضروري، هذه المرة بصورة أكبر وأوسع. في الماضي كان الفعل الثقافي العربي في مجمله يكاد ينحصر في الأدب بمختلف تجلياته الشعرية والروائية، حينما عادت المبادرات السعودية للانطلاق وضعت في حسبانها التحولات التي شهدها الواقع الثقافي وأهمية اتساع العمل الثقافي ليتجاوز الحيز الأدبي إلى فضاءات أوسـع، فظهرت مـؤسسة الفكر العـربي كمبادرة حيوية، سعودية المنطلق وعربية التطلع والهـدف، تسعى للتأثـير في الواقـع الثقافي العربي انطلاقا من احتياجاته.
المؤسسة قرأت محاور الواقع والمستقبل العربي وأعادت الاعتبار إلى الترجمة كوسيلة ثقافية مؤثرة وحيوية، وأدارت تجمعات ثقافية عربية في وقت كانت فيه الثقافة العربية أحوج ما تكون لإعادة ترتيب الصف الثقافي العربي.
سوق عكاظ يمثل اليوم أكثر الفعاليات الثقافية التي تعتمد على معطيات تاريحية حقيقية راسخة في جذور الفعل الثقافي العربي، إنه "عكاظ" أول وأقدم سوق أدبي عرفه الإنسان العربي، عاد عكاظ منذ سبع سنوات، لم يعد للسعوديين وحدهم، بل أعاده السعوديون إلى ثقافتهم العربية، أعادوه وفق الشرط الثقافي الجديد والآني الذي يؤمن بأن الثقافة باتت أوسع وأشمل من الاتكاء على الماضي أو مجرد استحضاره فقط، بل إعادة ربطه بالواقع في الطريق إلى المستقبل.
يوم أول من أمس أعلن الأمير خالد الفيصل، رجل المبادرتين الأبرز في الثقافة العربية: مؤسسة الفكر العربي وسوق عكاظ، أعلن أن السوق سيشهد مستقبلا حدثين مهمين: الأول: نافذة المستقبل، والثاني: أكاديمية دراسة الشعر العربي.
ما الذي ستقدمه نافذة المستقبل؟ سيمثل السوق تعبيرا عن قيمة الامتداد الحضاري الذي لا يتوقف، والقادر على المواكبة المعرفية والعلمية وتمثيل الإنسان العربي والثقافة العربية، لا بصورتها التاريخية فقط، وإنما بصورتها المستقبلية وطموحها الاستشرافي وارتباطها بالعالم، إن فكرة نافذة المستقبل ستمثل، فيما لو تم إنجازها بالرؤية الأنسب، لحظة عملية ومعرفية تبدأ من عمق تاريخ الثقافة العربية إلى أبعد آفاق الثقافة الإنسانية، أن تقف في عكاظ لتجد جناحا لمعرض ياباني أو أميركي يقدم مخترعات وابتكارات مستقبلية، وأن تجد شركات عالمية تبحث تطوير واستثمار هذا المخترع، وأن تجد مؤسسات علمية سعودية تؤثر في هذا الحدث وتتأثر به، وأن يتم ربط ذلك بالتوجهات القادمة نحو اقتصاد المعرفة، كل هذه عوامل سيتحول معها عكاظ ليمثل الامتداد الأبرز للتاريخ والثقافة والمعرفة.
إن فكرة أو مشروع (نافذة المستقبل) لا تقبل التنفيذ الجزئي أو القابل للتراجع، إنها واحدة من الأفكار التي ستمنح السوق قيمة إضافية عليا، وستربطه بالجدوى الحقيقية للثقافة والمعرفة على مختلف المستويات، وفي مختلف العلوم التي باتت تؤثر في حياة الإنسان. لقد بدأ السوق منذ سنوات خطوات مهمة في هذا المجال كان أبرزها حين أضاف الإبداع العلمي كحقل من حقول جائزة عكاظ، وهي المبادرة التي أثبتت أن ثمة رؤية جديدة وحيوية للسوق ولمستقبله.
على الجانب الثقافي يمكن للسوق أيضا أن يوسع دائرة حضوره وتأثيره في بقية المجالات التي تؤثر معنويا وثقافيا، فما الذي يحول دون استحداث فروع للجوائز تشمل الإبداع الإعلامي والإبداع التلفزيوني والمسرحي والفني..
عكاظ القديم جدا، في طريقه لأن يصبح أيضا عكاظ المستقبلي جدا..