من تأمل أحوالهم ومتابعة المستجدات على سوح الربيع عموماً والساحة المصرية خاصة فإن الإخوان المسلمين ليسوا كائناً هلامياً خارج منطق الفطرة وتقلبات أحوال البشر، ومن المتعذر النظر إلى الظاهرة الإخوانية كما لو كانت طبقاً طائراً أفلت من السماء فتلقفه الناس بالدهشة والذهول.. إذ إن التعاطي المسؤول مع مخرجات مناهجهم النظرية ومنطلقاتهم العقدية وممارساتهم السياسية المختلفة لن يصل إلى نتائج عقلانية تثمر الاستقرار والتعايش أو المساعدة على اجتراح أفق مستقبلي آمن ما لم تتوافق الإرادات العربية على منطق عادل للمراجعة، يتأسس على قواعد المعرفة المشتركة التي تبحث في الجذور، وتقود لإعادة لحمة المجتمعات ولا تقف عند حدود الثأر وتداعيات الخصومة أو يستغرقها التلهي بالقشور.

ولئن كان هذا ما يفترض بنا العمل من أجله فلم لا نجزم بأن ظاهرة الإسلام السياسي ليست شأناً مستقلاً بذاته لكنها عميقة الارتباط بتفاعلات سياسية على نقيضها، وهو أمر أجمعت عليه مجمل التناولات النقدية حول تجربة الإخوان. إذ ليست وحدها ما يجب بحثه، ولكن مختلف التيارات التي تعتمر الدين وسيلة للوصول إلى منافع ومصالح دنيوية كان الأحرى بالجماعات تحقيقها وفق وسائل تجتهد المجتمعات في استنباطها من تجاربها الحياتية وما تفرضه احتياجاتها المتجددة، وهي ولا شك تحديات يعنى العقل البشري بمواجهتها دون مغالبات تنظيمية تحتكر تمثيل الإسلام وتجبر الآخرين على الإذعان لاجتهاداتها في تأول النص وتوظيفه لخدمة توجهاتها السياسية.

دراسة الظاهرة بتفرعاتها وأوجه التباين بين أجنحتها بدءاً من الجماعة كمنبع انبثقت عنه مكونات وفرق وتنظيمات عديدة يمثل المبحث الأول لأي دراسة علمية جادة تستقصي مراحل المخاض وأطوار البناء الذاتي ـ في بلد المنشأ ـ وماهية الظروف التاريخية التي عاشتها المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وشكلت المناخ الجاذب لحركة (جماعة) الإخوان مذ بدأ سعيها الحثيث نحو التمكين وإقامة دولة الخلافة الإسلامية، وإقامة المجتمع المثالي الملتزم لنهج الولاء والبراء.

أما المبحث الأهم فيتطلب إرادة واعية وقراراً شجاعاً تتخذه الحكومات العربية لإتاحة مختلف الملفات السرية في إرشيفها الأمني أمام فرق علمية وخبراء متخصصين يقتفون دور ومساهمة الأطراف السياسية الوطنية والقومية واليسارية، التي جنحت سياساتها الطفولية وممارساتها المتطرفة لاستفزاز مشاعر مجتمعاتنا الإسلامية المحافظة، دون اكتراث لما يمثله ذلك من مخاطر لا سيما وقد تزامنت تلك السياسات مع موجات غضب شعبي جامح، ركمته حقب النفوذ المباشر للاستعمار الأجنبي في معظم بلداننا العربية والإسلامية.

العداء وحده لا يبني الأوطان، ولا الانتقام كمحدد رئيس للمواجهة يعيد للشعوب عافيتها، وتحميل الإخوان المسلمين كامل المسؤولية أصالة عن النفس ونيابة عن الأطراف الأخرى، قد يحملهم إلى السجون كما في الحالة المصرية الراهنة، وذلك ما يمكن اعتباره ثمن أخطائهم الفادحة في إدارة شؤون الحكم.. لكن ماذا عنا نحن؟!.. ماذا عن أخطاء القوى الأخرى في السياق التاريخي المصاحب سيرة الظاهرة وعوامل نشأتها وبواعث تشددها وأسبابها الذاتية للعمل بوتيرتين متناقضتين الشراكة السياسية والمجتمعية الواسعتين خلال اندلاع شرارة الثورة على المستبد ثم اللجوء إلى الخيارات الحصرية عند بلوغ الهدف ووقوع مقاليد السلطة في قبضة اليد!!

إن غياب المعرفة الكاملة بمن نعتبرهم خصوماً أو نعدهم أصدقاء يجعل معضلاتنا الكبرى أكثر استعصاء على الحلول وأبلغ ضرراً بمستقبل الأوطان والشعوب.

ولو كانت المعرفة والتقويم المنصف سبيلنا الأمثل لتشخيص المعضلات ما كانت خدع الشراكة في ثورة 25 يناير لتنطلي على أحد من أطرافها، ولا انفرط عقدها في أول امتحان أمام العقل الجماعي الذي قاد قوى الثورة في بلدان الربيع العربي.. ولو أن الحكومات العربية أخذت على كاهلها تنوير المجتمعات ومدّها بمعرفة محايدة لا تنطلق من مواقف مسبقة أو تنزع لمعايير الولاء والعداء، القرب أو البعد، ما كانت جماعة الإخوان لتتورط في المجاهرة بنزعتها الإقصائية وردود فعلها المتهورة. ولا سمحت الشعوب أن تكون جماعة الإخوان وحدها من يدفع الثمن؟

إن كان يجوز اعتبار جماعات الإسلام السياسي خطراً يتهدد مجتمعاتنا فإن الحكومات العربية وأجهزتها الاستخباراتية أول من يتحمل المسؤولية التاريخية عن صناعة هذا الخطر.. وإذا اعتبرنا الجماعة ضحية فإن التيارات السياسية والنخب الفكرية ومؤسسات الوسطية والاعتدال الرسمية كل هذه المكونات شاركت في تجاهل مظلومية الإخوان واضطرتهم لتعميم الانطباع القاتم تجاه ما لا يحسب عليهم أو لا ينضوي في أطرهم التنظيمية المغلقة. وهل كان الزعيم العربي جمال عبدالناصر، يرى في الجماعة خطراً يستهدف مصر لو لم يتعرض أمنه الشخصي لمحاولة اعتداء دبرتها الجماعة كما قيل..

وإذاً فإننا إزاء معضلة مركبة يمثل الإخوان أحد مكوناتها بتقلباتها المخلة بقيم الأمانة والمصداقية التي حث عليها ديننا الإسلامي.. هم لا ريب شاركوا في خلع الرؤساء السابقين مبارك وصالح وبن علي والقذافي، لكنهم حافظوا على بصماتهم البارزة في تكوين وتوجيه وتغّول ممارسات المستبد القديم، وأحسب أننا رأيناهم يحملون إرث الاستبداد إلى ساحات التغيير قبل إفشاء حلم الاستئثار بالسلطة خمسة عقود قادمة إلى حد اعتقال الرئيس السابق محمد مرسي، وفق رواية وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي.

ومجدداً فإن الوثبات الانفعالية في مجابهة الإخوان والاعتماد الكلي على الإجراء الأمني وعمليات الاعتقال لقياداتهم ونشطائهم والإفراط في توجيه حملات التحريض المصوبة ناحيتهم واستعداء المجتمع ضد كلما له صلة بتجربتهم الطويلة والشاقة والمتهورة أيضاً سيوفر الخميرة المستقبلية لإجهاض مشروع الدولة الوطنية في هذا القطر العربي أو ذاك، لتتبارى قوى الخارج بتعويض خسارتها الفادحة بضياع معالم الشرق الأوسط الجديد من خلال استخداماتها خميرة التطرف ورعايتها الأبوية مخرجاته عبر جيل جديد من ضحايا الشحن العاطفي المزدوج لإنتاج أكبر قدر من أدوات الصراع، وضخ المزيد من بؤر التطرف، فيما النظام العربي سيواصل سياساته القاصرة بمعزل عن بحوث الواقع ولن يبدي أدنى اهتمام بالمعرفة ومتاحاتها الهائلة لتفكيك عبوات اليمين واليسار وموروثاتهما المزروعة في طريق قوى الخير والمحبة والسلام على امتداد وطننا العربي والعالم.