كثيرون يظنون "ليوناردو دافينشي" مجرد فنان إيطالي أبدع "موناليزا" فقط، متناسين أشياء أخرى في سيرته، وعددا من اللوحات كلوحة شخصية رسمها لنفسه، ولوحته الشهيرة "العشاء الأخير" التي صور فيها بخياله اللحظات الأخيرة للمسيح "عيسى عليه السلام" كما عرفها من الأناجيل، وهو بين حوارييه الاثني عشر!

ورغم أن عددا غير قليل من الفنانين العالميين رسموا المضمون ذاته، لكن عبقرية "ليوناردو" ظهرت في تصوير لحظة درامية أظهرت ردة فعل حركية لانفعال تلاميذ المسيح حين فاجأهم أن بينهم من سيخونه، ويسلمه لليهود كي يقتلوه، وقال عيسى عليه السلام حينها مقولة مشهورة: "إن ابن الإنسان لا بد أن يمضي كما قد كُتب عنه".

هكذا، لم يكن صعبا على "ليوناردو" إظهار الحركية العجيبة في "موناليزا" التي بقي يرسمها 15 سنة منذ ما يقارب خمسمئة عام، شاغلا بها العلماء، فارضا سؤالا هو: هل تبتسم أم تسخر أم هي حزينة؟ فيما عيناها تشعر أنهما تريانك إن كنت عن يمينها أو يسارها أو أمامها حين تقف أمامها في متحف اللوفر في فرنسا! ولا شك أنها لوحة "مدهشة"، ودهشتها بالنسبة لي، كيف لتلك السيدة التي تخلو من الجمال، أن تُصبح الشغل الشاغل بابتسامتها لعلماء العالم، معطية درسا بأن الابتسامة سر الجمال أيا كانت ملامح الوجه ولونه، فوجه جميل غير مبتسم، لن يكون قريبا للقلب، والعكس صحيح.

ما يهم هنا، هو الثورة العلمية والبحثية التي وصل إليها الغرب في جميع المستويات، ودون إهمال للجانب الثقافي والفني، فلوحة كالموناليزا لفنان من رواد عصر النهضة، كان طفلا غير شرعي من سيدة فلاحة وأب من النبلاء لم يتم إهماله ببساطة، لقد صُرفت ميزانيات بمئات الملايين من الدولارات، لأبحاث علمية تنهض فقط على شكوك وظنون ربما لا صحة لها، وتم ابتكار اختراعات لفكّ تقنيات تلك اللوحة، فقط للمحاولة في فك أسرار صاحبتها وراسمها، فنيا وتاريخيا ودينيا وحتى طبيا، فالأطباء يقومون بدراسات لتقديم تفسيرات طبية لتلك الابتسامة، وأتذكر خبرا قديما هو أن أحد الأطباء يدعى "فيتو فرانكو" قدم بحثا في أحد المؤتمرات، وصل فيه إلى أن هناك علامات واضحة على تراكم الأحماض الدهنية تحت الجلد نتيجة لزيادة الكولسترول لدى سيدة "الموناليزا"، وأشار إلى أن في عينها اليمنى كيسا دهنيا أو ورما حميدا! إذن كانت مريضة "يا حرام"!

لكن آخر تلك الأخبار التي قرأتها هو حصول علماء إيطاليين من الكنيسة على تصريح بفتح إحدى المقابر التي يظنون أنها تعود بالقرابة لصاحبة اللوحة، للحصول على عينة من الحمض النووي، والتأكد من مطابقتها مع حمض نووي لسيدة تدعى "ليزا جراديني" زوجة تاجر حرير، قد فتحوا قبرها أيضا، ويعتقدون أنها "الموناليزا" التي رسمها دا فينشي!

هكذا هي الأبحاث العلمية والأكاديمية عند الغرب، لتلمس الفرق، فنحن والعالم العربي لم نصل إلى هذه الدرجة من الحريّة البحثية والميزانيات الهائلة سعيا إلى خدمة العلم بتجرد دون تدخل أيديولوجي وإن كانت في نهايتها تخدمها جيدا.