الحياد الإعلامي أمرٌ صعب، مهما حاولت بعض وسائل الإعلام إقناع المتلقي بالتزامها به، فطبيعة وسائل الإعلام أنها غير محايدة؛ لأن لكل وسيلة أهدافها وتطلعاتها وأيديولوجياتها التي تصبو إلى تكريسها من خلال رسائلها الإعلامية الخاصة.
ونظراً للكمِّ الهائل الذي نتلقاه اليوم-على مدار الساعة والدقيقة- من هذه الرسائل، ظهرت دعوات كثيرة إلى "ترشيد" التعرض لوسائل الإعلام، بالتقليل من آثارها السلبية وتكريس آثارها الإيجابية، ولكن هذه الدعوات تصطدم بطبيعة التطورات العالمية المتسارعة في مجال الإعلام والاتصال، والتي تحفز على إنتاج المزيد من الرسائل التي يتراوح من يقف خلفها ما بين وسائل إعلام ضخمة لدول وكيانات اقتصادية وسياسية، إلى أفراد عاديين ينتجون رسائلهم الخاصة من خلال مختلف وسائل الإعلام الإلكتروني.
وبما أن المنع الكامل والرقابة المستمرة ليس أمراً مستحباً ـ فضلاً عن كونه أمراً غير ممكن أصلاً ـ في ظل الثورة الهائلة التي نعيشها اليوم في مجال الإعلام الاتصالي، إلا أن الدعوة إلى "ترشيد" التعرض لوسائل الإعلام تبرز كأمر لازم وضروري ولا سيما على مستوى الفئات العمرية الممتدة ما بين الشباب والطفولة على وجه الخصوص.
بعد هذا العرض يبرز السؤال الملح: ما الذي يجب فعله في سبيل ترشيد التعرض لوسائل الإعلام؟
أستطيع القول إن الخطوط العريضة لعملية "الترشيد" هنا لابد أن تنطلق أساساً من الدعوات الدولية لمكافحة الأمية الإعلامية التي دعت إليها منظمة الأمم المتحدة للعلم والتربية والثقافة (اليونسكو)، وذلك من خلال تحقيق "تعليم الإعلام" في المدارس والجامعات بمنهج محدد وحرفية عالية، وهو ما اشتهر اليوم بمصطلح "التربية الإعلامية" الذي تشير إليه اليونسكو في أنشطتها ومؤتمراتها بأنه: عملية التعليم والتدريب على الإعلام، وذلك من خلال اكتساب الفرد القدرة على فهم الإعلام وتقييمه من جانب، والقدرة على إنتاجه والمشاركة فيه من جانب آخر.
لذلك نجد أن التعليم والتدريب يؤدي إلى قدرة الأفراد عموماً-واليافعين خصوصاً- على "فلترة" الرسائل الإعلامية الكثيرة أثناء عملية "التعرُّض" ليستطيعوا الاختيار المفيد من جهة، والسيطرة على عملية الاستهلاك الإعلامي من جهة أخرى، ولكن لا بد أولاً من رسم الخطط بهذا الخصوص، أي بإدخال التربية الإعلامية ضمن أغلب مواد المنهج الدراسي، والاستفادة من تجارب الدول الغربية بهذا الخصوص، وتجنب الأخطاء والمآزق التي وقعت فيها بعض الدول العربية مثل المغرب ولبنان وغيرهما من الدول التي اعتمدت إدراج التربية الإعلامية في مناهجها الدراسية.
ورغم مساعي اليونسكو في هذا المجال إلا أن الوضع في الكثير من دول العالم العربي مختلف تماماً، إذ لم تتبلور فكرة "التربية الإعلامية" تماماً في السياسات التعليمية وفي المؤسسات التربوية، إذ إنه حتى في مجال الدراسات النظرية والتطبيقية (العربية) يوجد فقر وندرة في التأطير والتنظير لتحقيق التربية الإعلامية في التعليم العام والعالي، وأؤكد هذا الأمر من منطلق تخصصي وتجربتي الشخصية في هذا المجال تحديداً.
وبما أن ترشيد التعرض لوسائل الإعلام يقع ضمن مجال محو الأمية الإعلامية بشكل عام؛ فإن القدرة على التفكير الناقد لدى الأفراد تؤدي حتماً إلى تنمية الحساسية النقدية للرسائل الإعلامية، والقدرة على تفسير معانيها وتحليل مضامينها في حياتهم اليومية، وهذا الأمر ليس خاصاً باليافعين، بل ينسحب على كافة أفراد المجتمع، ولا سيما فيما يتعلق بالرسائل المتداولة في وسائل الإعلام الاجتماعي، حيث تكثر الشائعات والاستهداف السياسي من خلال الحشد لتكريس أفكار معينة في المجتمع، وذلك بالإفادة من أوضاع اجتماعية وثقافية معينة من جهة، وشيوع الأمية الإعلامية لدى أفراد المجتمع من جهة أخرى، حيث ما زال الناس مع شديد الأسف يتعاملون مع الرسالة الإعلامية كـ"حقيقة" ويتم تداولها على هذا الأساس، وهذا يعني أننا أمام أزمة ثقافية-فكرية قبل أن تكون أزمة وعي بالإعلام تحتاج إلى مكافحة الأمية الإعلامية (التربية الإعلامية) من أجل تحرير الأفراد من سطوة وسائل الإعلام وما تتضمنه من رسائل ومعلومات لا تصمد أمام الموقف النقدي.
ومن الأمثلة القريبة الشائعة التي أطلقها موقع إلكتروني شيشاني من أن روسيا سوف تهاجم السعودية عسكرياً، ونقلتها عدة مواقع عربية وسعودية، ثم تداولها كثير من الأفراد على أساس أنها حقيقة مطلقة؛ وهذا المثال البسيط يوحي بأننا بحاجة لترشيد التعرُّض لوسائل الإعلام، أو بعبارة أخرى: بحاجة للتربية الإعلامية!