اللغة العربية بكل وظائفها المعرفية والروحية والجمالية، تشكل مرتسمات ذهنية ورؤى متجددة ونهوضا عقلانيا منفتحا على حقائق الكون وتخلقات الوعي واستقامة الوجدان، هي التعبير الحضاري عن هوية الأمة ومستقبل وجودها، ولذا على الأمة أن تصونها من الهلاك والتلف والتلاشي والتفكيك.

وقفتُ أمام مشهدين: أحدهما، لعربي حاقد على لغته العربية، يحتقر قيمها ويبث سمومه في جسدها وذخائر نسيجها، وهو أنيس فريحة حين قال: "اللغة العربية عفا عليها الزمن، فهي لغة متحجرة جامدة ولما جاءها الإسلام زادها تحجرا وجمودا، وخاصة بعد أن وضع لها النحو بأمر من الخليفة علي بن أبي طالب، ونقط المصحف بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي"، والمشهد الآخر، يمثله واحد من أشد أعداء العروبة والإسلام صاحب كتاب: "اللغات السامية" أرنست رنيان، إذ يقول: "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة لكنها بدأت في غاية الكمال، فليس لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة؛ لأنها ظهرت في أول أمرها تامة محكمة، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة لترجمة صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن نبتت تلك اللغة القومية ووصلت إلى درجة الكمال عند أمة من الرحّل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى".

أعلم أنه لا يفيدنا التغني بماضي الأمة العربية والتباكي والحسرة على حاضرها شيئا؛ لأن اللغات كما يقول الدكتور عبدالكريم السعدي: "تقوى وتزدهر بقوة أهلها وازدهارهم، وتضعف بضعفهم وتراجعهم، والعربية نسيج وحدها بين اللغات جميعا، لما تتمتع به من تركيز وتنوع وترتيب وتنظيم وتناسق، وتناغم وجاذبية وصفاء ومرونة وعذوبة تتجلى في مفرداتها، ودقة تعبيرها وإيجازها وإعرابها وسحر معانيها ورقتها وتلوينها الصوتي وأداتها الاشتقاقية"، وتقول الإسيسكو: "اللغة العربية ركن أساس من أركان الأمن الثقافي والحضاري والفكري للأمة العربية والإسلامية في حاضرها ومستقبلها، هي ليست لسانا فحسب ولكنها عنوان للسيادة".

ترى متى نتوقف عن العبث والسخرية بأقدس لغة عرفتها البشرية، ونحميها من هذا الابتلاء شديد الوطأة، الذي يجوس في إهابها كنصل قاتل يمزق أوردتها ويفقدها مكوناتها ومصاغات حضورها التاريخي والمعتقدي، ويعوقها عن ممارسة دورها في التصدي للتحديات الفكرية والروحية والعلمية والإبداعية؟