يقول المثل الغربي: "إذا صفعتني مرة فهذا خطؤك؛ وإذا صفعتني ثانية، فهذا خطئي". السؤال الذي يطرح نفسه، هو إلى متى ونحن نتلقى الصفعة تلو الأخرى، منذ بداية القرن العشرين، حتى الآن من أيادي القوى الاستعمارية الغربية؟ بل إن حالنا الآن أسوأ معهم من ذي قبل، فقد كنا نتلقى الصفعة تلو الأخرى، ولكن الآن أصبحنا نتلقى الصفعات تلو الصفعات وبالمجان المباح، ولا تستبعدوا الركلات تلو الركلات القادمة وبكرم غير مسبوق تاريخياً. فلم يكن نصيبنا من عولمة الغرب السياسي، غير عولمة العنف والفوضى والمزيد من التشتت والمقابر الجماعية.
والغرب الذي أتناوله في موضوعي هذا، هو الغرب السياسي، وليس الغرب الحضاري أو المدني، الذي نعمت البشرية بمنجزاته ومعجزاته العلمية والصناعية وما تزال. الغرب السياسي، مبني على جلب المصالح للغرب لا غير، وبالحفاظ على حقوق الإنسان الغربي لا غير، وبأسلوب ميكافيلي مخادع، لا غير. الغرب السياسي، هو من صنع ودعم الأصوليات في منطقتنا، وأولها الأصولية الصهيونية وليس آخرها جبهة النصرة ودولة الشام والعراق، أو ما لا نعلم عنه حتى الآن من أصوليات خفية. ثم يقضي منها أمراً مفعولا، فيعيرنا بالأصوليات، ويستدير علينا ببوارجه وحاملات طائراته ليخلصنا منها، ونكون له من الشاكرين. الغرب هو أول من طالب بأسلمة العنف، وتمت أسلمته بدعمه وبمباركته، واحتمى خلفه؛ ثم حصل على مأربه منه، واستدار علينا بمدافعه وطائراته المرئية وغير المرئية، التي تحلق بطيار وتلك التي لا تحلق بطيار، ليدك حتى قرانا ورؤوس جبالنا القصية، بحجة محاربة الإرهاب.
الغرب هو من خلق الدكتاتوريات والأحزاب الشمولية والجماعات الأصولية لدينا ودعمها وحصنها وعززها وحماها واستمات في الدفاع عنها، ثم لما أنهى غرضه منها، استدار عليها وعلينا، بدون تفريق ولا تدقيق ولا رحمة ولا هوادة، ليدك أركانها الرخوة ويهشم أركاننا الطرية قبل ذلك، وباسم الأخلاق ومبادئ حقوق الإنسان. من حق حكومات الغرب أن تحمي مصالح شعوبها، وأن تحافظ على حياتهم وكرامتهم وتعزز سعادتهم؛ وإن لم تفعل ذلك، فسيتم تبديلها بخير أو شر منها، بواسطة شعوبها أنفسهم.
نعم الغرب قد يكون جزءا من الحل العلمي والحل الفلسفي والحضاري المتاح لنا، ولكن حسب تجربتنا الطويلة معه، لا يمكن أن يكون هو الحل السياسي والأمني لنا، أو حتى جزءا منه. الأمن العربي الغائب ما يزال غائبا، كل دولة عربية تبحث عنه مرة بما تسميه بالأمن الوطني، ومرة أخرى بما تسميه بأمنها الإقليمي الضيق، وأثبت كل ذلك فشلا ذريعا. حيث تأكد أن أمن كل دولة عربية لا يمكن فصله أو تجزئته عن أمن جميع الدول العربية. كل هزة بدولة عربية، ليس فقط الهزات الأرضية الجيولوجية؛ ولكن حتى الهزات الأمنية والسياسية والاقتصادية، تؤثر على الأخريات، بدرجة مباشرة جداً أو غير مباشرة. كل دولة عربية من المحيط حتى الخليج تمثل خرزة في سبحة، لا يكون لها كيان فاعل من غير انتظامها بخيط أمان مع باقي الدول العربية الأخرى.
كلما حلت بنا كارثة، شخصت أبصارنا باحثة عن الولايات المتحدة، لإنقاذنا، فتأتي إلينا بأساطيلها وبوارجها وغواصاتها ثم تتركنا أسوأ مما كنا فيه، قبل الاستنجاد بها. وذلك بالمختصر المفيد، لأنه ليس للولايات المتحدة سياسة خارجية واضحة وثابتة ومحددة تجاه المنطقة العربية؛ كما هي سياستها الخارجية الثابتة والواضحة والمحددة تجاه أوروبا أو أميركا اللاتينية أو الشرق الأقصى، أو حتى أفريقيا. السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة العربية تحكمها وتديرها أمزجة وتقلبات مصالح أقوى وأعتى ثلاثة لوبيات سياسية، تتحرك كالثعابين السامة في غياهب دهاليز السياسة الخفية في مواقع صنع القرار في الولايات المتحدة، وهي اللوبي الصهيوني، ولوبي المجمع الصناعي الحربي، ولوبي شركات النفط والغاز. أي أن السياسة الخارجية الأميركية تجاه مناطق العالم كله، تخضع لمصالح الشعب الأميركي، ولذلك فهي تدار في العلن وفي الهواء الطلق؛ ويمكن سبر كنهها وتوجهاتها ودوافعها. أما سياسة الولايات المتحدة الخارجية مع العالم العربي؛ فهي تدار وتحاك وراء الكواليس وفي سراديب دهاليز صنع القرار الخفية.
في بداية تولي الرئيس أوباما فترة رئاسته الأولى، ومن دوافع أخلاقية أملتها عليه صلة القرابة الذاتية بينه وبين منطقتنا العربية، حاول وبرغبة منه الدخول وتحريك خيوط دهاليز السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة العربية؛ فوجدها مليئة بسموم الأفاعي، فخرج منها مسرعاً، وركز في سياسته الخارجية على منطقتي المحيط الهادئ وأوروبا. ولكن تفجر أزمات ما عرف بالربيع العربي وما خلفته من فوضى وتجاذبات إقليمية ودولية، اضطرته إلى العودة مكرهاً للخوض في غمارها التي أصبحت أكثر تعقيداً وضبابية من قبل فراره منها. كان دخوله للمنطقة للمرة الثانية عن طريق بوابة الحرب السورية حيث تدور رحاها على مقربة من سفوح التل المقدس والمحرم الاقتراب منه، وهو تل أبيب وما يحيط به من بقية تلال "دولة إسرائيل" غير المحددة رسمياً بعد. صدفة دحرجت دهاليز السياسة الخارجية الأميركية أوباما تجاه المنطقة العربية دون تخطيط أو رغبة أو إرادة منه، ليخوض في مستنقعات دمه النازف، من كل صوب وحدب.
لقد اندفعت أميركا ولمدة 8 سنوات، 1980- 1988، وباستماتة لا مثيل لها للوقوف في صف الحكومة والجيش العراقي في حربه مع إيران. ولقد تم استخدام السلاح الكيماوي في إبادة قرية كاملة، قرية حلبجة، تحت مرأى ومسمع ودعم من الاستخبارات الأميركية وكل الاستخبارات الغربية قاطبة، ولم يرف جفن لأحد منهم تجاه أي طفل أو عجوز أو امرأة أو أي إنسان أو حيوان قتل خنقاً في حلبجة العراقية، ما دامت المسألة هي حماية وتأمين تدفق الطاقة الرخيصة من المنطقة لشوارع ومصانع الغرب. ثم من عام 1990 إلى 2003، قامت القوات الأميركية بمحاصرة العراق وقصفه من وقت لآخر؛ حتى أنهكته وغزته واحتلته، وفككت دولته بما فيها جيشه وقوات أمنه الوطنية، ما دامت المسألة تتعلق ببيع السلاح وتأمين الطاقة وحماية إسرائيل، وكذلك بتأديب الجيش العراقي على قصف إسرائيل بصواريخ السكود.
ومن عام 2003، حتى عام 2011، احتلت أميركا العراق، وفككته حتى من بنيته التحتية وفرت منه هاربة، وتركته يتخبط في حالة أسوأ بكثير مما كان عليه قبل تفكير أميركا بوضعه ضمن أجندتها الخارجية. العراق وبعد أكثر من 30 سنة متواصلة من تدخل أميركا فيه، أصبح أقل أمناً بكثير مما كان عليه؛ ويهدد أمن المنطقة كلها، بسبب ما عاناه من فوضى أميركية غير خلاقة.
الآن أميركا تدق طبول حربها وتزمجر، للخوض في غمار الحرب في سورية، حيث قال أوباما إن الدافع لذلك هو مصلحة أميركية خالصة، فهل نحن أمام 3 عقود قادمة من تكرار السيناريو المأساوي والكارثي وغير الإنساني العراقي، ولكن في سورية هذه المرة؟