-1-
كما أن أميركا الآن، هي أقوى قوة عسكرية في العالم، وأقوى قوة اقتصادية في العالم أيضاً، فإن هاتين القوتين مكنتاها من أن تصبح أقوى قوة علمية وثقافية في العالم كذلك.
فأميركا تُعدُّ الآن، دار نشر العالم. فيما لو علمنا أن ما تنشره أميركا من كتب سنوياً يعادل أكثر من 30% مما ينشره العالم كله مجتمعاً. وأن عدد دور النشر الجادة في أميركا يساوي أكثر من نصف عدد دور النشر في العالم. وأن نيويورك كما هي صندوق مال العالم، فكذلك تعتبر دار نشر العالم، حيث يجتمع فيها أكبر عدد من دور النشر الأميركية، وأكبر عدد من دور النشر في أي مدينة أخرى في العالم.
-2-
أردتُ من هذه المقدمة السريعة أن أقول، إن هذا الأسطول الثقافي الهائل الذي تملكه أميركا لا يُفوّت صغيرة أو كبيرة تحدث في أميركا أو في العالم، إلا ويطلق وراءها المؤلفين، والباحثين، والناشرين، والقراء كذلك، فيما لو علمنا أن السوق الأميركية الداخلية تستهلك أكثر من 100 مليون نسخة من الكتب من شتى الأنواع والأحجام التي تغطي مختلف ميادين العلوم والمعرفة.
ومن خلال هذا الأسطول الثقافي الضخم، الذي تملكه أميركا نتيجة لتوسع قاعدة التعليم، ووجود أكثر من 3500 جامعة ومعهد علمي في شتى أنحاء أميركا، استطاع هذا الأسطول الثقافي الضخم أن يُعنى عناية شديدة بأحداث العالم، التي تشارك فيها أميركا بشكل خاص من قريب أو من بعيد، كما تفعل الآن بالنسبة لسورية.
-3-
لو ألقينا نظرة سريعة على المكتبة الأميركية، لوجدنا أن الثقافة الأميركية قد عالجت وشرحت، وكتبت، ونشرت، وباعت كتباً تتناول مختلف جوانب الحروب السابقة التي اشتركت فيها أميركا، بدءاً من الحرب العالمية الثانية، وحتى حرب الخليج الثالثة 2003. فصدرت كتب تعالج يوميات الحرب، وذكريات المحاربين، والأخلاقيات في الحرب، والدين والسياسة في الحرب، ودبلوماسية الحرب، والإشاعات في الحرب، والحرب والبترول، والحرب والاقتصاد، والحرب والاستراتيجية، وأسلحة الحرب، وإدارة الحرب، والحرب والبيئة، وفنون الحرب، وجماليات الحرب، وبشاعات الحرب، والعدالة في الحرب، ومقارنة بعض هذه الحروب بحرب فيتنام، والجماعات الإرهابية والحرب، والحرب والصحة العامة، والحرب والطب، والحرب والطعام، والحرب وإسرائيل، وخلفيات الحرب التاريخية والسياسية، ووجهات نظر الأديان في الحرب: الإسلام والمسيحية واليهودية، وموسوعة الحروب، وخلاف ذلك من الموضوعات، التي لم تترك جانباً من الحروب إلا وأتت عليه، وتناولته من قبل مختصين علميين، كلٌ في ميدانه واختصاصه.
كما اشتهرت من بين كتب الحرب في السوق الأميركية، دواوين الشعر. فقد صدر أكثر من عشرين ديواناً من الشعر عن الحرب، معظمها على لسان المحاربين، وعلى لسان من فقدوا محاربين لهم في الحرب. فقرأنا ديوان شعر (يوميات للأبطـال) لآن درستادت، وديـوان (بعد العاصفة) لغاي ميك وريـف، و(الجندي الرمادي) لجون ديبوس، وديـوان (يوميـات الحـرب) لمايكل لـوج، و(أشعار من الخليج الفارسي) لجوسلين هولز، وغيرها من دواوين الشعر.
وفي مجال الأدب النثري، كانت هناك روايات، من أهمها رواية كامدن جوي (صبي الجزيرة) ومجموعات كثيرة من القصص القصيرة أهمها مجموعة جاب هيدسون (عزيزي السيد الرئيس). وهيدسون كان من جنود الاحتياط في المارينز. وكتب مجموعته القصصية من وحي تجربته الواقعية كجندي قنّاص. وتدور هذه القصص حول يوميات جندي والمغامرات العسكرية والعاطفية التي تتم بأسلوب تهكمي ومضحك في كثير من الأحيان. وهي تذكرنا بما سبق أن كتبه جورج سوندرز. كما تذكرنا بكتاب آخر صدر عن جندي آخر وهو (مذكرات جندي في البحرية الأميركية) لأنتوني سوفورد.
ومن الكتب، التي لفتت الانتباه من مجموعة الألف كتاب التي صدرت عن الحرب كتاب جون كيلسي (الإسلام والحرب: دراسة مقارنة)، وكتاب مجيد خدوري المفكر والأكاديمي الأميركي البارز من أصل عراقي مع أدموند غريب (الحرب في الخليج: الصراع العراقي الكويتي وتطبيقاته)، وكتاب (بغداد اكسبرس: يوميات حرب الخليج) لجون تيرنبسيد، وكتاب ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي الحالي مع كيث روزنكرانس (أفعى في الصحراء، يوميات طيار مقاتل في حرب الخليج)، وكتاب ريك اتكنسون (الحملة: قصة لم تُحكَ عن حرب الخليج)، وكتاب جين ساسون الشهير (اغتصاب الكويت). وسيلٌ لا ينتهي من البحوث العلمية الجامعية التي تقدم بها الطلاب لرسائل الماجستير والدكتوراه، إضافة إلى الندوات العلمية التي عُقدت في طول أميركا وعرضها.
-4-
فأين نحن العرب من كل هذا؟ ماذا كتبنا نحن؟ وماذا نعرف نحن عن الحروب السابقة؟
وما هي الدروس المستفادة من هذه الحروب، لكي نتعلم منها ما يعيننا على تحمُّل ويلات الحروب؟
لم نكتب غير تلك التعليقات الصحفية اليومية السريعة البلهاء، التي تبكي الحال، وتندب على المآل، وتلطم الخدود، وتشق الجيوب، ولكنها لا تُؤرخ ولا تُوثّق، ولا تُعلّم، ولا تُثقِّف. إنها للاستهلاك اليومي، كما هي حياتنا كلها قائمة على الاستهلاك اليومي.
والآن ماذا يمكن أن تقول الثقافة الأميركية في الحملة العسكرية على سورية - مثلاً- وما هو المشهد الثقافي الأميركي المنتظر، بعد هذه الحملة؟
في تصوري أن المشهد الثقافي الأميركي القادم حيال هذه الحملة العسكرية على سورية، سوف تكون ملامحه العامة مختلفة عن ملامح الحملات العسكرية السابقة، كما سنبين في مقال قادم.