واستكمالا لما أنهيته بالأمس، غادرت الثانوية العامة ناجيا من فكرة الورطة كمشروع جهيماني، ظللت بعدها عاما كاملا في وجل وخوف، لأن اسمي مكتوب في دفاتر الجماعة التي أقنعتني أن أكون مجاهدا محليا، تماما مثلما تورط بعض "بلدياتي" فيما لا دخل لهم فيه، ولا هدف لهم إليه.

أنا ـ هنا ـ لا أكتب تجربة شخصية، بقدر ما أكتب ـ اليوم ـ أفكار الاستقطاب التي تستهدف أوائل الطلاب في الثانوية العامة، وتستغل فيهم براءة التفكير، وفراغ المحتوى المعرفي.

أنهيت الثانوية العامة في الترتيب "الثاني" من الأوائل في المنطقة الجنوبية، وهذا ليس تباهيا بصدفة مرت قبل ثلاثين عاما، ولكنني أسردها كي أشرح دوافع الاستقطاب، وأهدافه، وحتى المقصودين به.

في أوائل الثمانينات ومنتصفها، كنت طالبا في جامعة الملك سعود، ويومها كانت موجات ملء الفراغ العقلي لآلاف الطلاب تموج في رابعة النهار، وتحت شمس الضحى.

كان الشريط الشهير: "لا وطنية في الإسلام"، يوزع على كل طاولة، وبالنسبة لي وجدته تحت "مسّاحة" سيارتي في مواقف الجامعة، وبالنسبة لي ـ أيضا ـ فقد فعل هذا الشريط التسجيلي سحرا خارقا يعكس ـ على النقيض ـ كل ما أراده هذا الشريط.

كان هذا الشريط الشهير أول رسالة تنبيه إلى أن هناك نمطا منظما وبالغ النفوذ يريد أن يتركني على قارعة الطريق بلا وطن وبلا هوية.

في السنتين الأخيرتين من الجامعة، درَست مقرري: النظامين السياسي والاجتماعي في الإسلام، لمؤلفيهما على التوالي: "محمد العواد، ومحمود العسال"، وللأسف الشديد، سأقول بكل مرارة: إن ولدي اليوم يدرس في جامعته الأفكار ذاتها، وإن تغيرت أسماء المؤلفين.

تدريب ممنهج على مصادرة فكرة وطن أعطى ـ كمثال ـ لعائلتي الصغيرة على الأقل عشرين طبيبا وداعية وأستاذ جامعة.

سأتذكر على الدوام أن حياتي الجامعية كانت أول تجريب لفكرة الانفصام الشخصي عن المجتمع. لفكرة التدريب على كراهية كل ما حولنا من المجتمع "الجاهلي"، وعن غربة الإنسان بين أهله، وفي وطنه!