لم يكن مبدأ الدين الإسلامي يوما ما مبنياً على الرفض أولاً، لكن القبول هو المبدأ الأساس الذي تسير عليه الشريعة، ثم يأتي الرفض بناءً على الضرر المترتب على نتائج وجود ذلك الموجود القديم أو الجديد تالياً.
وتقول القاعدة النفسية في الفقه الإسلامي: "الأصل في الأشياء والمنافع هو الحل"، وهي القاعدة التي يحاول بعض الغلاة في الدين تحويرها لما يسند قناعاتهم ورؤاهم، وهذا أمر غير مفهوم لنا كمتلقين مسلمين غير متخصصين في جانب من المسائل الدينية الفقهية على الأقل، إذ لم يكن الإسلام بتعاليمه يوماً مضيّـقاً على معتنقيه.
وقد استدل علماء الإسلام على أن الأصل في الأشياء والمنافع الإباحة، بآيات القرآن الواضحة من مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) سورة البقرة:29، (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه) سورة الجاثية:13، (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) سورة لقمان:20، وما كان الله سبحانه ليخلق هذه الأشياء ويسخرها للإنسان ويمن عليه بها، ثم يحرمه منها بتحريمها عليه، وكيف وقد خلقها له، وسخرها له، وأنعم بها عليه؟ وإنما حرم جزئيات منها لسبب وحكمة. ويقول الشوكاني في كتابه نيل الأوطار: "المراد من هذه العبارة وأمثالها، مما يدل على حصر التحليل والتحريم على الكتاب العزيز، هو باعتبار اشتماله على جميع الأحكام، ولو بطريق العموم أو الإشارة أو باعتبار الأغلب لحديث: (إني أوتيت القرآن ومثله معه). وهو حديث صحيح".
لكننا نحن المسلمين نتحدث دائماً عن التناقض، ونبادر بتقديم الرفض كمبدأ أول، على الرغم من أنه ليس الأولى بالمكانة، والغريب أننا مقابل ذلك الموقف لا نسعى إلى تقديم البدائل! فإذا لم يكن هذا هو التناقض بعينه فما هو إذن؟
لقد تسبب تخوفنا الشديد من الجديد والمتغير الوافد إلى ثقافتنا، في تصاعد ثقافة الرفض على حساب ثقافة التقبل والاحتواء، وأثر ذلك الموقف المتردد والمتوجس، في المردود الفكري والإبداعي عند المسلمين لقرون عديدة، ما جعل مبدأ الرفض والمنع يبدو كأصل مقدم في الفقه الديني! وظهر التباين الحاد في الرأي الفقهي الإسلامي حول الأطروحات الفكرية المختلفة وتجاربها في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، التي تزامن دخولها مع الوجود الاستعماري الغربي لمساحات واسعة من الوطن العربي والإسلامي، ومستمراً إلى الوقت الراهن الذي تسارع فيه الإبداع الحضاري الإنساني، لتبرز أهم أمثلة الرفض في الواقع الفقهي الإسلامي الحديث، في جملة رفض كثير من أنظمة الدولة الحديثة وتقاطعاتها، وكثير مما يتعلق بآليات وطُرق الاقتصاد العالمي الحديث. وعلى الصعيد التقني –على مستوى الآلات- فإن تاريخ الرأي الفقهي المتسرع حافل بالممانعة الغريبة للمنتج ومتطلباته! وأما فيما يخص العلوم الطبية فحالة الرأي الفقهي لم تكن موفقة منذ البدايات الأولى، إلا أنها تراجعت تحت ضغط الاحتياج الإنساني ورضخت كثيراً له.
ونفاجأ من جهة أخرى، حين تظهر حالات التفاخر العجيبة بذكر بعض المكتشفات العلمية أو الأثرية الجديدة، بأسبقية وجودها وذكرها أو التلميح إليها في القرآن أو في كتب الأحاديث بعد جولة أولية من الرفض، وهذا قول يختلف حوله كثير من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين. وتباين الاعتراف بها بين علماء ومذاهب المسلمين، يعكس حالة الفرقة والتخبط الفكري في فهم سببية خلق الأشياء ووجودها، ويقلب مفهوم ومنطلق التعامل مع تلك الموجودات رأساً على عقب، فالله تعالى لم يخلق الأشياء كلها حراماً إلى أن تتم إباحتها بالدليل، لأن في ذلك تحجيما لمسألة استفادة الإنسان الفعلية من المخلوقات والموجودات والمبتكرات، وهي التي ذكرها الله تعالى في القرآن بالإجمال دون تسميات، كما يشير كثير من الآيات، وتناولُها بالرفض والتحريم أولاً دون تمحيص أو تجربة غير موفق مطلقاً، ويتناقض مع توجه القرآن والإرادة الإلهية، وعليه فمن الأجدى لنا كأمة عظيمة ألا نسارع إلى نبذ المستجدات، من أفكار أو مخترعات أو أطروحات أو اكتشافات ما لم يثبت بالقطعية ضررها، وعلينا السعي إلى تغيير بعض مفاهيمنا المقولبة مسبقاً في هذا الشأن الشديد الحساسية، لأن موقفنا، أياً يكن، سيمثلنا دينياً وفكرياً وثقافياً وأممياً.