من المهم التأكيد على أن الصحافة أو وسائل الإعلام بشكل عام لا تستطيع الانعتاق كلياً عن المجتمع الذي تصدر عنه، أي إن واقع الإعلام ومستواه في أي مجتمع ما هو إلا انعكاس للقيم والأنظمة والسلوكيات السائدة في المجتمع، هذه الحقيقة ليس الهدف منها التماس المبررات للضعف الذي يعتري الصحافة المحلية أو تقديم الأعذار للتراخي الذي يصبغ أعمالها تجاه قضايا الوطن والمجتمع، وإنما هي محاولة للتعامل بشيء من الموضوعية مع واقع الصحافة المحلية، فالملاحظ أن الثقافة الإدارية في المؤسسات الصحفية بالمملكة هي نفسها الثقافة الموجودة في المنظمات الأخرى سواء كانت حكومية أو خاصة، فالمحسوبية والنفاق الإداري وتغليب المصالح الشخصية عوامل مؤثرة في تسيير العمل واختيار القيادات ورسم سياسات واتجاهات العمل، وهذا ما يفسر وصول قيادات إعلامية في الصحف المحلية لا يربطها بالعمل الإعلامي المهني سوى المكان الوظيفي فبعضهم يفتقد إلى الحد الأدنى من القدرات والمهارات الإعلامية ما يجعله عاجزا عن المشاركة في تقديم عمل مهني يتوافر على المستويات المقبولة في المجال الإعلامي غير أن هذه الحقيقة لا يمكن أن تعفي الصحافة من مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية تجاه الوطن وآماله وطموحاته المستقبلية، فالصحافة التي توصف بأنها السُّلطة الرابعة تملك من التأثير ماي جعلها قادرة على المشاركة الفاعلة في أي مشروع تنموي، ومشروع الإصلاح الإداري والاقتصادي الذي تتبناه القيادة العليا يقوم في أهم جوانبه على النقد والشفافية والمكاشفة ومحاربة الفساد الإداري والمالي، وهذا الجانب تشكل فيه الصحافة قطب الرحى، فالنقد امتياز إعلامي، إذ لا يمكن لقطاع آخر أن يؤدي مهمة النقد بالشكل الذي يمكن أن يؤديه الإعلام، صحيح أن الجهات الرقابية ومنظمات المجتمع المدني مسؤولة عن كشف ومراقبة أداء القطاعات الحكومية إلا أن دور الإعلام يبقى هو الدور الأكثر تأثيراً وقدرة على إحداث التغيير المطلوب، وهو ما يثير تساؤلات عن الطريقة التي تتعامل بها الصحافة مع مشروع الإصلاح الإداري والاقتصادي، وهل تعي الصحافة مسؤوليتها الأخلاقية والوطنية تجاه مشروع الإصلاح؟ وهل القائمون على المنابر الصحفية يتعاملون بمسؤولية ووطنية مع قضايا الفساد الإداري؟
الواقع أن الإجابة تبدو محبطة فالصحافة لم تقم بدورها المنتظر في كشف وتعقب الظواهر السلبية التي تغذي الفساد في القطاعات الحكومية، وإنما أصبحت أداة للتلميع والمديح ونشر التقارير الإعلامية الصادرة عن هذه القطاعات بكل ما تحمله من تضليل ومبالغات ودون التحقق من دقة هذه التقارير وما تتضمنه من بيانات ومعلومات، وتحولت الصحافة من أداة إصلاحية إلى عامل من عوامل استشراء الفساد في القطاع الحكومي، وبدلاً من أن تنشط الصحافة في تعقب مظاهر الفساد والضعف في أداء القطاع الحكومي من خلال تقديم مكافآت مجزية لمحرريها للحصول على موضوعات موثقة عن هذه المظاهر ونشرها ومتابعتها، اعتمدت في تناولها للقطاع الحكومي على المحررين المتعاونين من موظفي القطاعات الحكومية ورضيت بأن تكون أداة لنشر المواد الإعلامية الصادرة عن هذه القطاعات، وأصبحت الصحافة بالنسبة للكثيرين من ممارسيها أداة للاستنفاع وتمرير المصالح وإقامة العلاقات، ولم يعد سراً أن بعض الصحف تمنع نشر الموضوعات التي تحمل نقداً لاذعاً لبعض القطاعات الحكومية بسبب ارتباط القائمين عليها بعلاقات شخصية مع النافذين في تلك القطاعات. إن المشكلة ليست في تراخي الصحافة عن أداء دورها الإصلاحي فحسب وإنما في كونها أصبحت وفي حالات كثيرة عاملا مساعدا لاستمرار وتفشي الانحراف في القطاعات العامة، فالصحافة التي يحرص مسؤولوها على تبادل الزيارات والعلاقات مع مسؤولي القطاعات الحكومية.. والصحافة التي ترضى بأن تكون وسيلة لنشر التقارير السنوية المدائحية التي تصدر عن القطاعات الحكومية.. والصحافة التي تعتمد في كوادرها التحريرية على موظفي العلاقات العامة في الجهات الحكومية هي صحافة لا يمكن لها أن تقوم بدور الناقد والكاشف للممارسات السلبية في هذه القطاعات، بل إنها لا تستطيع القيام بذلك حتى وإن أرادت فلغة المصالح والعلاقات الشخصية تبقى الموجّه الأهم في الموضوع، ومما زاد الأمر سوءاً السماح للجهات الحكومية بالإعلان المدفوع في الصحافة حيث أصبحت بعض القطاعات الحكومية تختلق المناسبات للإعلان بمساحات واسعة وبالألوان وبمبالغ كبيرة ومتكررة ما جعلها تقع في خانة العملاء الذين يرتبطون بعلاقة تجارية مع هذه المطبوعات.
ربما يقول أحدهم إن الصحافة المحلية أدت دورا مشرفاً في كارثة جدة وساهم عدد من كتابها الشرفاء الصادقين في تصعيد الموضوع ومحاسبة المتسببين، وهذا الكلام صحيح إلى حد ما لكن علينا ألا ننسى أن موقف الصحافة من الكارثة في بدايتها كان عادياً ولم يأخذ مساره الإيجابي إلا بعد الإيحاءات الرسمية بالإشارة الصريحة للفساد، في حين كان الإعلام الاجتماعي (اليوتيوب، تويتر، الفيس بوك..) هو البطل الحقيقي لإبراز تلك الكارثة وتوثيقها بالصور، وبالتأكيد هذا لا يمنع من القول بأن الصحافة المحلية تقوم في المرحلة الحالية بأدوار مهمة في التنوير الثقافي ومحاربة الظواهر الاجتماعية السلبية وتعزيز تعددية الرأي وبناء اللحمة الوطنية غير أن هذه الأدوار تظل قاصرة ومحدودة، فالهامش المتزايد لحرية الرأي في الطرح الإعلامي استخدمته الصحافة في نقد الظواهر الاجتماعية والثقافية في حين قصرت عن تعرية مكامن الخلل في أداء القطاعات الحكومية.