نجحت وزارة الصحة في جعل مناشدات المواطنين ومعاريضهم العلاجية والصحية قواعد اجتماعية غير مستنكرة، بل وتعد استجابتها لها إنجازا ومعيارا لجودة خدماتها. الجميع يعلم أن النظام الصحي متهالك، ولسنا بحاجة لمقالات ولا لتحقيقات صحفية حتى نثبت هذه الحقيقة، فكل ما تحتاجه أن تسأل عن صحة المواطن ليأتيك سيل عارم من الأخطاء الخدمية والإدارية.
ولكن يبدو أن مناشدات المواطنين اليومية لم تعد ترضي غرور وزارة الصحة وبقية ممثلي مجلس الخدمات الصحية، حتى تستجيب لإحياء النظام الصحي من غيبوبته. ولذلك فإن المناشدة والتوسل أتيا هذه المرة من داخل قلعة الصحة، من زميلتهم الاستشارية التي نطقت بعد أن تركوها لقمة سائغة للمرض والعوز والحاجة، حتى أراقت ماء وجهها في وسائل الإعلام المختلفة. لم تشفع للدكتورة نجلاء خدمتها كطبيبة ولم يشفع لها كونها أما ومطلقة والعائل الوحيد، ولم يشفع لها تعففها عن السؤال. كل هذا لم يشفع لها حتى تأخذ حقها المكفول بنظام الحكم الأساسي في مادته الـ31، والذي تمت عرقلته من قبل القائمين على النظام الصحي حتى تراكمت عليها الديون وعلقت بألمانيا.
تشير الإحصاءات العالمية أن شخصا من كل اثنين سيصاب بالسرطان، وأن شخصا من كل أربعة أشخاص سيموت به، وكله بعلم الله سبحانه. قدر الله أن تصاب الزميلة الدكتورة نجلاء بسرطان دماغي حولها من طبيبة استشارية إلى متعففة تنتظر زكاة أحدهم بعد أن تركها زملاؤها التنفيذيون فريسة لنظام الخدمة المدنية، الذي أجهز عليها وعلى مصدر دخلها، والذي كان بالإمكان منعه لو تم استثناؤها بشفاعة تنفيذية، ولكن ليس للدكتورة نجلاء قيمة في موازيين هذه الشفاعات والاستثناءات فهي مجرد طبيبة.
ذهبت الدكتورة نجلاء لألمانيا؛ بحثا عن أمل لعلاج سرطان الدماغ، بعد أن استنفد القطاع الصحي المحلي قدرته على علاجها شموليا، وألا أمل لها سوى العلاج التلطيفي، الذي لا يوجد له أي بنية تحتية في المملكة سوى اجتهادات فردية من بعض أطباء الأورام، والتي غالبا ما تفشل لانعدام المنظومة، فالمستشفيات العلاجية تختلف عن مراكز العلاج التلطيفي لحالات السرطان المستعصية، وهو ما يعرفه أي طالب طب وليس بحاجة لمجلس خدمات صحية ليقر بأهميته ويعمل على توافره للمواطنين.
نعود للدكتورة نجلاء، أو أم أحمد، التي فطرت قلوبنا وأدمت أعيننا في مداخلتها الهاتفية مع الأستاذ فيصل الكاف، في برنامجه "عائلة واحدة" على إذاعة مكس إف إم في شهر رمضان الماضي. أراقت أم أحمد ماء وجهها في مداخلتها طلبا للمساعدة المالية؛ حتى تستطيع الحصول على عملية نسبة نجاحها 77? كما ذكر لها الفريق الألماني. انتظرنا شهرا كاملا عسى أن يصحو أحد أعضاء مجلس الخدمات الصحية ليصحح الخرق الأخلاقي والقانوني بحق زميلتنا الدكتورة نجلاء ولكن دون جدوى. حق الدكتورة نجلاء في اختيارالعلاج تم سلبه من قبل القائمين على الصحة، وهو ما يستلزم توضيح القواعد التي انطلق منها هذا السلب، فالمريض الذي تدعي أولويته وزارة الصحة، له الحق المطلق وله حرية القرار في اختيار علاجه وتحديد مصيره في مواجهة مرضه كما ينص عليه الدين ثم النظام الأساسي للحكم والقوانين والأخلاقيات الصحية العالمية والتي وقعت وصادقت عليها المملكة.
ليس للقائمين على الصحة الحق في تحديد اختيار نجلاء لعلاجها المكفول بالنظام الأساسي للحكم، خاصة عند عدم قدرتهم على توفير الخيارات العالمية محليا. وليس لهم الحق في منع عملية الدكتورة نجلاء لعجزهم عن إجرائها، بل وليس لهم الحق في منعها حتى وإن اختارت علاجا أو جراحة تجريبية لم تثبت فاعليتها.
ما فعلته وزارة الصحة، وما فعله بقية ممثلي مجلس الخدمات الصحية مع زميلتنا نجلاء هو امتداد لحالة أي طبيب متعجرف، يظن أنه الأخبر والأحق باتخاذ القرارات عن مريضه، ولكن هذه المرة بقرار تركها للموت عقابا لاختيارها علاجا خارجيا.
كما أن لوزير الصحة مجلس استشاري عالمي لمساندته إداريا، فالمواطن أيضا بحاجة لمجلس استشاري عالمي لمساندته ودعم اختياراته التي يقوم بسلبها منه تنفيذيون بفهم قاصر للصحة وقصره على العلاج، متناسين تعريف الصحة الذي يعد من الأبجديات. الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا، لا مجرد انعدام المرض أو العجز، وهذا التعريف مقتبس من ديباجة دستور منظمة الصحة العالمية بصيغته التي اعتمدها مؤتمر الصحة الدولي بنيويورك عام 1946، ودخل حيز التنفيذ عالميا عام 1948.
لا أعلم ما الرسالة التي يبعثها مجلس الخدمات الصحية وعلى رأسه وزارة الصحة لبقية المرضى إن كان هذا تعامل الأطباء مع الأطباء، ولا أعلم من يملك الشجاعة في هذا المجلس المتهالك للمبادرة بالاعتراف بعجزهم، والبدء بإصلاح النظام الصحي، ولا أعلم ماذا سيكون موقف أعضائه فيما لو أصبحوا أو أولادهم ـ لا سمح الله ـ كزميلتنا نجلاء وأطفالها، ولا أعلم هل سيقبلون بأداء المنظومة الصحية الحالي لأنفسهم أو ذويهم مستقبلا. ما أعلمه أننا وقفنا في صف السرطان ضد الدكتورة نجلاء، أم أحمد، وسلبنا مالها وصحتها.