كل علاقة هي موضوع للسلطة، وبالتالي موضوع للعدالة. الحوار ليس أي علاقة، بل هو علاقة جوهرية في حياة الناس، مما يجعل الحديث عنه من منظور العدالة في غاية الأهمية أيضا. المقالات السابقة كانت تحاول الحديث عن الحوار كعلاقة وجودية. أي علاقة يحقق من خلالها الإنسان وجودا جوهريا هو الوجود مع الآخرين. وجود الإنسان فيزيائيا مع الآخرين حقيقة فيزيائية واجتماعية، ووجوده معهم من خلال الحوار حقيقة إنسانية. الحوار باختصار هو العلاقة الوحيدة التي تقوم على اشتراط ظهور الناس أمام الآخرين كما هم، مختلفين وآخرين. الحوار هنا يتجاوز كونه استراتيجية أو وسيلة لغرض معيّن إلى كونه نمط عيش يمارس من خلاله الإنسان وجودا أكثر تحررا وأكثر مصداقية وأكثر وعيا بحقيقة الوجود بـ، ومع الآخرين.

يقول مارتن بوبر "الحب بلا حوار علاقة شرّيرة". ماذا يعني أن يخلو الحب من الحوار؟.

إذا استفدنا من تحليلاتنا السابقة في المقالات السابقة، يمكن القول إن غياب الحوار عن الحب يعني غياب المساحة البينية بين المحبّين. غياب المساحة البينية، أي المساحة المشتركة، يعني إما انقطاع العلاقة أو هيمنة طرف من أطراف العلاقة على الآخر، وإلغاء وجوده المستقل. نعرف أن كثيرا من المحبين ينزع إلى السيطرة على من يحبون. الغيرة هي إحدى صور هذه النزعات. في مثل هذه الأحوال يكون الحب حالة مرضية فعلا، بمعنى أنه يقوم على اختفاء أحد الأطراف وتمكّن الآخر من تحويله بشكل أو بآخر إلى وسيلة لإشباع مشاعره.

تقول حفصة بنت الحاج:

أغار عليك من عيني ومني

ومنك ومن زمانك والمكان

ولو أنّي خبأتك في عيوني

إلى يوم القيامة ما كفاني

كما يقول يزيد بن معاوية:

أغار عليها من أبيها وأمها

ومن خطوة المسواك إن دار في الفم

أغار على أعطافها من ثيابها

إذا ألبستها فوق جسم منعّم

الحب في غياب الحوار حجب وإخفاء. في المقالات السابقة ذكرنا أن الحوار، في المقابل، ظهور وإعلان ففيه يتحرر الفرد من حجاب المظهر إلى حقيقة المخبر. عند بوبر هذه العلاقة شرّيرة ونحن نعلم أن الخير والشر هي موضوعات الأخلاق وموضوعات العدالة. سأحاول هنا القول: لماذا الحوار فعل عادل ولماذا اختفاؤه ظلم؟.

العدالة هي القيمة التي تنطلق من مبدأ المساواة بين الناس. الحوار، كما أفهمه هنا، هو العلاقة التي تتحقق فيها أعلى مستوى ممكن من المساواة. المساواة لا تكون إلا بين أطراف، ولذا فهي شديدة الحساسية من إخفاء طرف لطرف، أو هيمنة طرف على طرف. المساواة أيضا لا تعني تطابق الناس وتشابههم، بل تعني تمتع كل واحد منهم بحقوق أساسية تؤسس له موقعا عادلا داخل العلاقات الاجتماعية. من ضمن هذه الحقوق حق الظهور والتعبير وإطلاق الأحكام والدعاوى. في الحوار هذا المعنى جوهري. الحوار يتوقف تماما حين يتعالى أحد الأطراف على الآخر، ويتحول إلى موجّه ومعلّم. الحوار كذلك يتوقف مع اعتقاد أحد الأطراف أن الطرف الآخر غير مستحق لإنشاء المعرفة وإطلاق الأحكام. الاحتقار المعرفي يعني أن أحد الأطراف يعتقد أن الطرف الآخر لا يوافق معاييره الشخصية لاستحقاق القول المعرفي. هذا الاحتقار يقضي على الحوار؛ لأنه يقضي على إمكان الشراكة والتعاون. إذا عدنا للحوار كضيافة يمكننا القول: إن الضيافة تتناقض مع الاحتقار والاستنقاص.

العدالة مفهوم أخلاقي، ولذا فالحوار هو أيضا قضية أخلاقية. المنظور الأخلاقي للحوار يعطي تصورا مختلفا للحوار وقيمته ومعناه. الحوار يصبح استحقاقا ومطلبا وموضوعا للالتزام. إذا كانت الواجبات الأخلاقية نابعة عن التزام حر وواع، وليست موضوعا للمزايدات وتقلبات المزاج، فإن الحوار يأخذ كذلك نفس المعاني. طبعا كي لا نحمّل الموضوع أكبر من طاقته فإن ما أقوله لا يعني هنا أن يحيل الإنسان كل علاقاته إلى علاقات حوارية؛ لأن طبيعة الحياة تفرض على الإنسان علاقات سريعة ومحدودة. المطلوب هو ألا يغلق الفرد الباب أمام هذه العلاقات للتحول إلى علاقات حوارية. أي أن تبقى حالة الضيافة حاضرة باستمرار تبحث عن فرصة مواتية للتحقق. على سبيل المثال قد يستقل شخص ما سيارة التاكسي بغرض الوصول إلى نقطة مكانية معيّنة. العلاقة مع سائق التاكسي هنا في أصلها نفعية ومحدودة، وهذا طبيعي ولا بأس به. أثناء الاجتماع في السيارة العلاقة في حالة إمكان وفرصة للتطور إلى علاقة حوارية من خلال انكشاف السائق والراكب على بعضهما البعض. تطوّر العلاقة هنا محفوف بظروف طبيعية كضيق الوقت أو الظروف الصحية لأحد الأطراف. هذا مفهوم لكن المشكلة تتحقق في حواجز ثقافية تحجب الاثنين عن التعرّف على بعضهما، كنظر الراكب أن السائق أقل منه مستوى، ولا يحب التواصل معه، أو اعتقاد السائق أن الراكب ينتمي لطبقة معينة أو عرق معين أو مذهب معيّن لا يحب التواصل معه. هذه المواقف عليها استشكال أخلاقي عميق؛ لأنها أولا تتعارض مع مفهوم المساواة بين الناس، وثانيا لأنها تنطلق من أحكام افتراضية متخيّلة ليس من العدل البناء عليها والتصرف انطلاقا منها.

في المقابل، في العلاقات الجوهرية الأساسية كعلاقة الوالدين بأطفالهما أو علاقات التعليم والتربية أو الزوجية أو الصداقة أو العلاقات داخل العمل، فإن غياب الحوار عن العلاقة يعني مشكلا أخلاقيا وغيابا واضحا للعدالة. العلاقات السابقة دون حوار علاقات ظالمة؛ لأنها باختصار تقوم على إخفاء أحد أطرافها وسيطرة الطرف الآخر، وبالتالي فهي علاقات لاستعراض وممارسة السلطة، بدلا من كونها علاقات لحضور الناس وظهورهم وفتح الأفق لرؤية بعضهم للبعض الآخر. هذه العلاقات دون حوار علاقات تعمية وستر وإخفاء، وهي بهذا قواطع للتواصل الذي هو جوهر الوجود الإنساني. سأكمل في الأسبوع القادم الحديث عن الحوار من منظور العدالة وداخل أفق الضيافة.