الشاعر مريع سوادي، أحد شعراء عسير الذين اختاروا التجديد، على الرغم من أنه بقي ـ كالكثيرين من شعراء جيله ـ مربوطا بالقديم، سواء أكان ذلك على مستوى التركيب اللغوي، أم على مستوى الصورة، وتلك حال بدهية، فليس هناك انقطاع حقيقي؛ لأن التراث يبقى المعين المقدم على غيره.

له ديوان يتيم عنوانه: "وشايات قروية"، والعنوان مرتبط ارتباطا شعوريا وموضوعيا بغير قصيدة من قصائد الديوان، بيد أن أظهرها ـ في هذا الجانب ـ قصيدة: "ظنون في حضرة أبي"، وهي من النماذج التي كان استخدام الروابط اللغوية فيها مؤازرا للسرد والتكرار، وموضوعها كله يدور حول الوشاة الذين ينقلون أفعاله إلى أبيه، فيجعلونها أفعالا سيئة، بينما هي أفعال بشرية معتادة، تصدر عن كل إنسان، لكن مجتمع القرية الضيق جعل الناس يتكلمون عن كل شيء، حتى تصير الشائعة ـ بكل تناقضاتها ـ حقيقة مسلمة؛ لأنهم أخذوها عن شفاهي متعالم، يتكلم فيهم أكثر مما يقرأ ويستزيد، وبرغم تعدد أنواع الوشايات التي أتى عليها سوادي، إلا أنها جاءت كتلة واحدة متماسكة، بسبب اتصال السرد، وتكرار الألفاظ، واستخدام الروابط استخداما يسلسل الأحداث والأقوال زمنيا، ويصل بينها، بل ويبين بعض المفارقات التي اتسمت بها أقوال هؤلاء الوشاة. يقول في أحد المقاطع:

خَامسٌ فيهمْ يقولْ:

إنَّني صلَّيتُ خَمْساً..

ثُمَّ نِمْتْ!

وتوضّأتُ بِرمْلٍ..

ثُمَّ صُمْتْ!

وَلَبِسْتُ الجارَ حَرْفاً..

وكتبتْ!

وصَعَدْتُ الجَوَّ سِرَّاً

وذَهَبْتْ!

وبأنّي جعتُ يوماً..

وقرأتْ!

ولهذا ليسَ حقَّاً..

ما فَعلْتْ!!

فسوادي يستخدم حرف العطف "ثم" مرتين، ويهدف من ذلك إلى أمرين: أحدهما، الربط بين الجمل، والثاني، أن يجعله دليلا على هشاشة أقوال الوشاة؛ لأنهم يجعلون الفعل التالي غير متسق مع سابقة، محاولين خلق تناقض في تصرفات الشاعر، "صليت خمسا ثم نمت، توضأت ثم صمت"، ومعنى ذلك أن استخدامه للروابط يتجاوز كونها أدوات تصل أجزاء الكلام، إلى توظيفها في خدمة المعنى الخفي الذي يريد إيصاله، فـ"ثم" تعني الترتيب، واللاحق غير مرتبط بالسابق إلا في المجاز، أو للدلالة على كذب الواشين، وهو ما يمكن أن يقال عن استخدامه حرف العطف "واو" ثماني مرات، إذ يأتي الفعل اللاحق مفاجئا من الناحية المعنوية؛ لأن صلته بالمعطوف عليه غير منطقية في الحقيقة، كقوله: "لبست الجار وكتبت، جعت وقرأت"، لكن حرف الواو أدى دوره بوصفه واصلا بين الألفاظ والمعاني، كما يستخدم إحدى أدوات الربط المنطقية، وهي "لهذا"، في آخر المقطع، لتعيد القارئ إلى ما سبق كله، أي بسبب أقوالهم السابقة، يكون فعلي خارج إطار الحق، لتتصل بهذا الرابط نهاية النص به كاملا، لأن المتلقي يحتاج إلى العودة؛ كي يقبض على المعنى، ويربط النتيجة بالمقدمات، مما جعل قراءة القصيدة شبيهة بالسير في طريق دائري، بدايته هي نهايته، ونهايته هي بدايته.