عندما يبحث العاقِل عن حكمة عابرة في أحاديث مجنون، فهذا لا يعني أن المجنون بات يعقِل فجأة، بل يعني أن عقل العاقل قد أُصيب بالإرهاق جراء محاولات فهم الأحداث التي تأتي بها الحياة، إرهاق يمنع العقل من الاستيعاب أكثر.. وبما أن -الحديث ذو جنون- فها هو مجنون الحارة الذي لم يعد له وجود اليوم، ولا أدري صراحة لماذا اختفى عن الحارة؟ لقد كان وجوده ضامناً لتوازن الحياة، فمنذ اختفائه والجميع أصبح مُطمئناً إلى كمال عقله، اطمئنانا أقنعهم بعدم الحاجة لإعمال عقلوهم أكثر.. نعم، لقد افتقدنا مجنون الحارة الذي كان يضع الجميع أمام حقيقة أنهم ليسوا عقلاء إلى ذلك الحد!

عموماً.. ها هو مجنون الحارة جلس ليلتقط أنفاسه من ملاحقة الأطفال له بين الأزِقة، وبلا مقدمات أخذ يوجه حديثه إلى أول شخص التقى به: في ليلة زفافي أخذت بيد زوجتي ورحنا نمشي بين الحضور بكل خُيلاء، متجهين إلى المنصة والأضواء مُسلطة علينا من كل اتجاه، كنت سعيداً جداً حينها وأنا تحت دائرة الضوء، غمرتني أحاسيس لا توصف وأنا أرى الأعين كلها متجهة إلي، لكنني اليوم وعندما أتفكر في تلك الليلة أشعر بحيِرة! فأسأل نفسي: هل كان الغرض من تسليط الأضواء أن أكون محط الأنظار، أم لمنعي عن رؤية الحضور؟ فمن ناحية أنا لست بذلك الجمال والطلة البهية، ومن ناحية أخرى نحن في مجتمع محافظ حيث النساء لا يختلطن بالرجال، ولهذا فقد توصلت إلى قناعة تامة بأن الهدف الوحيد من تسليط الأضواء عليّ في تلك الليلة هو ألا تقع عيناي على النساء بأي حال.. ثم أعود لأسأل نفسي مرة أخرى: لماذا لم أدرك هذه الحقيقة يومها؟ فلا أجد جواباً إلا أن المكوث تحت دائرة الضوء تترك الإنسان شِبه أعمى، لما يُسبِبه الضوء من غرور وكبرياء واعتقاد بعلو الشأن، وغيرها من المشاعر التي تتكفل تماماً بحجب الإنسان عن رؤية الكثير من الأشياء التي تقع خارج دائرة الضوء، مع العلم أن ما يقع خارجها في الغالب يتم وصفه بالمكان المُضيء.

فتعال يا صديقي نُطبِق فِكرة "أن الضوء يُعمي" على كل من سلِطت عليهم الأضواء في المجتمع، سواء كان مثقفا أو رجل دين أو مسؤولا أو موظفا مرموقا، فهل سنرى اختلافا؟ إننا إذا ما طبقنا هذا المفهوم على كل هؤلاء سنتحصل على بعض الأجوبة لأسئلتنا الحائرة: لماذا مشاكل المواطن البسيط بعيدة عن "الأضواء"؟ لماذا هنالك انفصال بين تلك النُخب والعامة؟ لماذا القليل فقط منهم من يُشعرك بأنك "لست وحدك" بينما البقية يصرخون فيك "مع نفسك"؟ والسؤال الأهم: أليس في القوم رجل رشيد؟ وجواب السؤال الأخير لن تصل إليه إلا عندما تدرِك أن دائرة الضوء بكل أشكالها سواء كانت "منصبا وظيفيا، منبرا دينيا، واجهة ثقافية... إلخ" متى ما لاحقت الإنسان طيلة الوقت وفي كل مكان فستنزع عنه صِفة الرشد، لأنه سيجد نفسه في الغالب لا يرى أبعد من دائرة الضوء القابع فيها.. وإن كانت سكرة العريس ساعة فما بالك بمن تدوم سكرته كل ساعة؟

لا أحد يطالب تلك النخب بالابتعاد عن دوائر الضوء التي تُحيط بهم، لأن تسليط الضوء عليهم فيه منافع للجميع شريطة ألا تعميهم الأضواء، والأضواء لن تُعمي إلا في حال امتنع القابع تحت الضوء عن الخروج إلى مكانٍ مضيء، كما خرج الشيخ "الشعرواي" ذات يوم لينظِف حمامات أحد المساجد، وحين تم سؤاله عن السبب أجاب: لقد أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها! .. طبعاً، لا أحد يطالبهم بتنظيف دورات المياه، لكن الحديث هنا عن المبدأ، أن تشعر النخبة بهموم العامة وتتشارك معهم الحياة، أن يخرجوا من دائرة الضوء بين فترة وأخرى لرؤية المجتمع على حقيقته بعيداً عن عالم الأفكار المعلبة.

لو نظرنا إلى الأحداث التي تدور اليوم في كل الوطن العربي سنجد حالة من الانفصال الهائل أو الطلاق البيِّن ما بين العامة والنخب، فمن يتحرك ويصنع الأحداث هم أناس لا ينشدون الظهور في الفضائيات أو اعتلاء المنابر، مجرد بسطاء يتحركون بهدف التغيير الجذري بعيداً عن التفكير النخبوي الفارغ الذي لم يعد له جمهور، لإيمانهم أن تلك النُخب لم تعد تملك ما تقدِمه للمجتع أكثر من أفكار مُعلبة أسهمت وما زالت في تحويل الربيع إلى خريف...

هنا أخذ صاحبنا "مجنون الحارة" يتلفت يمينا وشمالاً فلم ير أحدا! حينها أدرك بأنه كان يُحدِث نفسه طيلة الوقت فلم يُبالِ، التقط قطعة خبز من على الطريق ومضى في سبيله وهو يتمتم: إن العقلاء لا يبحثون عن الحكمة داخل أفواه المجانين إلا لعلمهم أن المجنون ليس عليه من حرج، وطالما ليس عليه من حرج فهذا يعطيه مساحة أرحب للتفكير خارج صناديق الثقافة النخبوية التي ما إن يخرج عنها أحدهم حتى يقع في حرج!