الجو المشحون الذي نعيشه هذه الأيام، ونُذر اقتراب ضربة أميركية لسورية، أعادا مثلي إلى ذات الأجواء التي مررنا بها، إبّان حرب تحرير الكويت.

كنت إذ ذاك متخرجا للتو من الجامعة، وفي بداية وظيفتي الحكومية، ولبينا نداءات مليكنا الراحل فهد بن عبدالعزيز ـ ذلك الذي جنّب بلادنا ثلاث حروب بحكمته ودهائه ـ بالانتفاضة لاستقبال الشعب الكويتي الشقيق بعد الغزو، والاستعداد لتبعات احتلال الكويت، وذهبنا كشباب، للتطوع في هيئة "الإغاثة الإسلامية"، التي تولت ـ ضمن هيئات عديدة ـ توزيع الشعب الكويتي في الفنادق والوحدات السكنية المفروشة، وشقق المواطنيين الذين تقاطروا شهامة منهم ونبلا للتبرع بعمائرهم ووحداتها، بل بعضهم قسّم شقته قسمين، لإيواء الأشقاء الكويتيين، في وقفة سجلها التاريخ لبلادي وقادتها.

فُتح وقتها باب التدريب التطوعي على استخدام السلاح، وانفلت المجتمع بكل فئاته للانخراط في تلكم الدورات، وكانت الصحف تنقل لنا، صور أولئك الشبيبة والكهول والفتيان والشباب، من كافة الأعمار وهم ينخرطون تطوعا، في لوحة وطنية أخاذة، ما زالت تحضر أمامي كلما دقت نواقيس الحرب حولنا، وأنا مطمئن فعلا، بأن هذا المجتمع بأصالته وجسارته وتماسكه، سيكون يدا واحدة مع ولاة أمره وقتما تدلهم الخطوب.

ما أودّ طرحه في صميم هذه المقالة، هو إعادة النظر عاجلا في دراسة "واجب الخدمة العسكرية"، أو "التجنيد الإلزامي" أو ما تطلقه الصحافة العربية "التجنيد الإجباري"، لشباب بلادي، تحسبا لأي ظرف قد نمرّ به، وإيمانا أكيدا بأن شباب هذا الوطن وأبناءه هم الخليقون حقا بالدفاع عن ترابه وأرضه ومنجزاته.

دار حديث في مجلس حضرته حول هذا الموضوع، وقال صديق: الأفضل بدلا من انشغالنا بهذا التجنيد، أن نوجه شبابنا نحو تحصيل العلوم والمساهمة في التنمية، لأن جيشنا فيه الخير والبركة، ونثق بقدرته وقوته لصدّ أي عدوان.

أما جيشنا السعودي، فلا شك في قدراته الدفاعية والهجومية، والأسلحة الحديثة التي يتوافر عليها، والحرب اليوم تقوم على التكنولوجيا ولا شك، ولكن يبقى عندما يعرف أيّ عدو قريب أو بعيد، أن الجيش الاحتياطي عندنا يتجاوز ثمانية ملايين رجل، فإنه يفكر ألف مرة قبل أن يقدم على انتحاره، والعدد نوع من الرهاب الذي نرهب به أعداء الوطن، فضلا على الجوانب التربوية الأخرى التي يتحصلها شبابنا، من تحمل المسؤولية، والقوة البدنية، والثقة بالنفس، وترك بعضهم للميوعة والنعومة، والانشغال بسفاسف الأمور.

هناك مشروع طرحه مجلس الشورى باسم "خدمة العلم" في العام 2012، والذي قدمه العضو سالم المري بلجنة الشؤون الأمنية في المجلس، ومقترح "خدمة العلم" وضع آليات وضوابط للتجنيد الإجباري بصورة مواكبة للعصر، تهيئ شبابا سعوديا قادرا ليس فقط على الخدمة العسكرية بالجيش الوطني، وإنما أيضا على الخدمة المهنية.

لا أدري في أي درج من أدراج مجلس الشورى العديدة، دُفن هذا المشروع، ولكن آن الأوان أن ينتفض أحبتنا الغيورون في المجلس لإعادة طرحه من جديد، وتسليط الضوء عليه، وتطويره، بحيث يدخل فيه التحصين الفكري جنبا إلى جنب مع الخدمة المهنية والعسكرية، كي نقطع الطريق على من يلوح تخويفا بأن بعض الشباب ربما يعتنق الفكر الإرهابي، وكلنا يعرف من أين تسلل لنا ذلك الفكر، وكيف التاث أولئك الشباب به في جبال "تورا بورا" من الجماعات التفكيرية المصرية والجزائرية، وشباب هذا الوطن، نحن أحق بتربيتهم عندنا، في محاضن تصنع منهم رجالا، بتربية عسكرية منضبطة، وترسيخ مهني عميق، وفكر وسطي يعرف حق مجتمعه وولاة أمره عليه.

تأملوا في تجارب الدول التي تجبر كل شبابها على الانخراط في "التجنيد الاجباري"، فالخدمة العسكرية في إسرائيل ـ مثلا ـ إلزامية لكل ذكر أو أنثى فوق 18 سنة، ويُستثنى من الخدمة الإلزامية بعض المجموعات من بينها العرب المسلمون والمسيحيون وطلاب "اليشيفات" (المدارس اليهودية الدينية)، وكلنا رأينا كيف تصرفوا في حربهم مع "حزب الله" في 2006م، وكانوا على درجة عالية من الاستعداد كمجتمع، وهو ما أؤمل أن نقوم به تحسبا واحتياطا.

والدعوة ليست فقط على مستوى الشباب، بل حتى فتياتنا الجامعيات، اللواتي عليهن أن يخضعن لدورات مركزة في الإسعافات الأولية، وأعمال الإغاثة، وبعض الوظائف التي تتناسب مع طبيعتها كإمرأة، وتكون تلكم الشهادات التي يأخذنها هي الطريق للتوظيف.

أعيدوا يا رجال الشورى "خدمة العلم"، وألحّوا عليه، وأقنعوا به المجتمع ومسؤوليه، لصالح هذا الوطن وشبابه.