يقول (غابرييل غارسيا ماركيز): لو أن لي قليلاً من الوقت لكتبت بعضاً منِّي على الجليد، وانتظرت شروق الشمس.
ترتكز سيرة الإنسان في الحياة على توثيق "اللحظة" التي هي أهم عنصر في الزمن، ليس توثيقاً مكتوباً فحسب، إنما توثيقاً من خلال الفعل الحضاري الذي يقوم به الإنسان في كل ما ينجزه على الأرض؛ وهذا يعني أن الوقت قد يمضي سريعاً أو بطيئاً في حياتنا، لكنه لا بد أن يمضي على أي حال، فلن يستطيع الإنسان أن يفعل كل ما يريد في حياة قصيرة واحدة، مهما حاول أن يفعل أكبر قدر في أقل وقت ممكن.
يقول سعد الله ونوس: إننا "محكومون بالأمل". وأقول إننا أيضاً محكومون بالزمن! فالحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أنّ في "لعبة الزمن" تكمن حياتنا، ومهما حاولنا الابتعاد أو التخلِّي عنها لا نملك إلا أن نعود إلى لعبتنا كالأطفال، على الرغم من إدراكنا أن الذي يُردينا في نهاية الأمر هي اللعبة ذاتها.
والكتابة كحالة خاصة، من أهم اللحظات لا يَشعر الكاتب حيالها بعنصر الزمن، وذلك ربما لأن الزمن في لحظة الكتابة لا يكون عاملاً ضاغطاً، لتصبح الكتابة إحدى أهم اللحظات الزمنية التي تتحقق فيها الحرية، حين يكاد الشعور بالزمن يتوقف.
ربما هي لحظة ميلاد ولحظة موت في الوقت ذاته، فالأفكار التي تخرج من ذهن الكاتب تتحقق لها الحياة بإخراجها من مخبئها في الذهن، لكنها ربما تصاب بلحظة موت لحظة خروجها أثناء الكتابة بانفصالها عن بيئتها المفترضة، إذ حين نفكر بعمق في سيرة الكتابة، وفي حالة الاندماج في لحظاتها الصارمة، ندرك أن شيئاً ما لا بد أن يحدث أو يتغير، لا يمكن تفسير حقيقته بالحياة أو بالموت مطلقاً، إذ إن لحظة الفعل تعتبر جزءا لا يتجزأ من الحياة، وهي لحظة زمنية فاعلة يتم فيها التحرر من مختلف زوايا الحياة الضيقة التي تحصر الكاتب أحياناً، بل ربما تعصره أحياناً أخرى، فيكون التعبير عن فكرة أو موقف جزءاً من سيرة الكتابة.
في الكتابة (المبدعة) ثمة أعمال مهمة وأخرى أقل أهمية، وأيضاً ثمة أعمال ممتعة وأخرى أقل إمتاعاً، إلا أنها جميعاً تبقى في إطار العمل الإنساني الذي يصعب طمسه؛ لأن الكتابة هي الأثر الوحيد على "وجود" الكاتب، أي الشاهد الذي لا يكون زواله سهلاً، تماماً كالأنهار المتدفقة أو الجبال الشاهقة في الطبيعة، التي اكتشف الإنسان من خلالها معنى كونه موجوداً.
اللحظة الزمنية لأنواع الكتابة الراقية هي "كبسولة" من حياة كاتبها، نستطيع من خلالها أن نستشف الإيحاءات الإنسانية التي يفكر فيها الكاتب: همومه، القضايا التي تقلقه، وما يحلم به ويتوق أن يرى العالم عليه.
إن الكثير من الكتابات جسدت حلم الإنسان بالخلود، وأظهرت رغبته في الأزلية في الاكتشاف، ورسخت لديه هاجسه الإنساني في عبور حاجز الزمن إلى مختلف أحلام الحياة ولذاتها وآمالها وآلامها، فكانت الكتابة منذ الأزل منبراً فسيحاً لحوار الذات، ومساحة خاصة للتفكير بالوجود، عبر ولادة الكثير من الأفكار ذات الأثر الباقي، في لحظات الاندماج بين النفس والعقل والجسد.
تابعتُ الكثير من الكتّاب، فوجدت أن الذين يكتبون سيرهم الذاتية بأنفسهم هم الذين يعيشون لحظة الكتابة فيقدمونها وقد صنعوها بأنفسهم، بالضبط كالذي يصنع قهوته بيده فيشعر بالمتعة مضاعفة عما إذا تناولها جاهزة دون أن يشارك في صنع لحظتها؛ ولذلك فإن السير الذاتية التي يكتبها أصحابها بأنفسهم تكون أجمل وذات نكهة واضحة لا يشاركهم فيها أحد، بغض النظر عن الطريقة التي يقدمون بها أنفسهم للقارئ، والتي لا تحتوي الصورة الكاملة، بل تعطي جزءاً من الصورة، لكنه الجزء الذي يمكن بواسطته قراءة ما يجول في أذهانهم من تصورات عن الذات والعالم، وهنا تأتي أهمية توثيق "اللحظة".. فالحياة قصيرة مهما طالت.