لم يكن الراحل غازي القصيبي واحدا من كل.. بل كان كلاً في واحد.. هو قامة بحجم تاريخ، وتاريخ بحجم أرض انتمى إليها فمنحته الدفء ومنحها حبّه وحروفه وتجربته.
رحل القصيبي، لكنه ترك إرثاً إبداعياً لا ينسى.. ومن بين الإرثين الكتابي والإداري توزعت حواسه، لكنها كانت أقرب للكتابة على الرغم من أنه أسس لمدرسة الزيارات المفاجئة "الحقيقية" التي مارسها منفردا بدون صحافة وكاميرات. أما رواياته ومؤلفاته فهي ضمن الأكثر توزيعا حيثما حلّت في معارض الكتب، ولا تكاد مكتبة مثقف سعودي تخلو من بعض كتبه.
القصيبي استثناء في زمنه وزمن سابقيه، وهو أثبت أن الإبداع لا يتعارض مع الإدارة ومن الممكن أن يكون الوزير والسفير شاعرا ويحقق الحضور والتميز في عمله.. وقبله حلم بعض الشعراء ـ ليس آخرهم المتنبي ـ بأعمال قيادية لكنها منعت عنهم لأن النظرية التي سادت هي أن الحكام لا يضعون مصير الناس بين يدي شاعر، غير أن القصيبي الشاعر أثبت بحنكته خطأ تلك النظرية، فكان مسؤولا وشاعرا وروائيا وكاتبا وصديقا لكثير من المبدعين وغير المبدعين.
وأتذكر سلسلة مقالاته التي دأب فترة على إرسالها إلينا ـ بخط يده ـ لنشرها في "الوطن" في زاوية أطلق عليها اسم "بيت"، كان آنذاك يترك ذائقته تسرح في ثنايا الأدب العربي، ثم يتناول في كل مقال بيتا من الشعر العربي ليحلله برؤيته الخاصة ويحكّم فيه العقل كأنه فيلسوف يستقرئ الأشياء ليصل إلى مراد الشاعر، وربما أكثر مما يريد الشاعر من بيته. وفي نهاية المطاف أصدر مقالاته تلك في كتاب "بيت: مختارات شعرية - في خيمة شاعر". وأتذكر أيضا بعض مقالاته التي كان يرسلها لتنشر في "الوطن" ضمن صفحات الرأي، ومن آخرها ما تحدث فيه بروح الأديب الساخر عن تجربته في وزارة العمل.
مبادرة وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة منذ فترة قريبة بفسح كل كتب غازي القصيبي تمثل الرؤية الواعية لعصر الثقافة والانفتاح، فالجيل الحالي لا بد أن يطلع على ما أنتجه الجيل الذي سبقه، ولو فكرنا بأن الجيل السابق يضم مبدعا كالقصيبي برواياته المثيرة للجدل التي جعلت "الرقيب" لا يفسح كتب الوزير والسفير والشاعر، لأدركنا حجم الفراغ الذي سيتركه رحيل مبدع اسمه "غازي القصيبي".