تأتي سن السادسة والموعد المرهون بالمستقبل بدخول المدرسة وتبدأ برمجة الأذهان تلقيناً وحفظاً، فيصاب "الصغير" حجماً والكبير عقلاً، بصدمة قاسية في "سجن" مجازي تتطلبه أنظمة مدارسنا!

ليس للعنوان علاقة بمصطفى أمين، وطلقاته الفاجعة التي تحيط بعروبته وحريته وأدب سجنه.. بل صورة عن قلاع ضخمناها بإراداتنا وإدارة مستقبلنا، وجعلناها أسواراً عالية ومحميّة بحصانة "الرماديّ" اللون.. باختصار هي 34 ألف مدرسة تستقبل "اليوم" في جميع مناطق المملكة ومحافظاتها أكثر من خمسة ملايين طالب وطالبة في مراحل التعليم العام، سيكون في استقبالهم مسؤولية وإدارة "مستقبل ورسالة" 501111 معلماً ومعلمة، وعليه وبكل اختصار:

ومع بدء العد التنازلي من كل عام دراسي، تبدأ الأسئلة الموسمية تتصاعد كالبخار الساخن من فوهة صيف كل عام.. هل سيبدو طفلي هذا العام سعيدا في مدرسته؟ وهل سيتواصل طفلنا مع معلميه وزملائه بشكل جيد؟ وتتجاوز الأسئلة للمعلمين هل يبدون أيضا سعداء وراضين بعملهم؟ وهل المناخ التعليمي صحيّ يعتمد على التعلّم وليس التّعليم فعلاً من قبل منسوبي المدرسة؟ وهل إدارة المدرسة تواكب الإدارة التربوية الحديثة؟

لذلك نجد أن جميع الآباء يبذلون قصارى جهدهم نحو تربية أفضل، ويتمنون لأبنائهم أن يتلقوا أفضل تعليم، وعادة ما تكون مسألة اختيار المدرسة هي أهم القرارات التي يتخذها الآباء، وتعتبر منعطفا مهما في حياة كل طفل، وهو ما يراه المختصون في مجالات التربية، أحد أهم القرارات التي يجب للآباء والأمهات الإعداد الجيد لها، على أن تكون مدرسة المستقبل للطفل هي الاختبار الحقيقي لولي الأمر في تحديد بوصلة اتجاهه التربوي لطفله، وما يترتب مستقبلا على هذا القرار، ففي بعض الدول المتقدمة مثلا يتم البحث أولا عن المناخ الاجتماعي والعاطفي ثم التعليمي.. فالمدرسة الجيدة ليست فقط من يتفوق بها الطفل دراسيا، بل هي التي تهتم أيضا بجوانب التعليم الاجتماعي والتواصل الإيجابي مع الآخرين.

وإذا كان هذا العام الأول لطفلك في المدرسة فتأكد بأنه هو العام الأهم على الإطلاق في حياته الدراسية، وبذلك لن يبالغ علماء النفس والتربية عندما يرون أنه سيترك بصمة على سلوكه واتجاهاته واستعداداته طوال العديد من السنوات المقبلة، وسيمثل له التحدي الحقيقي الأولي في مواجهة العالم الخارجي، فكلما كان طفلك مستعدا لمواجهة هذا التحدي، زادت نتائج نجاحه وشعوره بالسعادة (إن وجدت)، لأن المهارات الشخصية والتعليمية التي يتعلمها أي طفل ستساعده على تفجير أقصى طاقاته، وتجعله ناجحا في حياته على جميع المستويات الأكاديمية أو النفسية.

الواقع يشير إلى أن المدارس تشغل جزءا كبيرا من حياة كل طفل في العالم، ففيها يقضي الطفل اثني عشر عاما وآلافاً من الساعات، وقبل التحاقه بالمدرسة أو الحضانة يكون في منزله المحور الرئيس اهتماما ورعاية بالنسبة لوالديه أو لأسرته، ثم ينتقل بفجأة السنين الطفولية إلى عالم جديد، وبعد ستة أعوام من وجوده ينتقل ليقضي ويتعلم مع أشخاص غريبين بالنسبة له لا يعرفهم، لم يلتق بهم من قبل، وهذا من أسباب الصدمة الانتقالية في مكان لم يعتد عليه، وهذا يضاهي في تصوره المحطات الانتقالية المهمة في حياة كل منا، مثل بدء عمل جديد أو الانتقال لمدينة أخرى تجمعها البهجة، والخوف، والترقب.

يركز كثير من التربويين على مسألة التهيئة الكافية للطفل قبل دخوله للمدرسة لمواجهة هذا الحدث المهم في حياته، تقول الطبيبة النفسية سو بيرني والمستشارة الأسرية الأسترالية: "من المهم حقا أن تساعد طفلك على إجادة عدد من المهام والأنشطة قبل أن يبدأ في الذهاب إلى المدرسة".

الخصائص العقلية لعلمائنا الصغار قبل دخولهم المدرسة تشبه طريقة العلماء في البحث العلمي، فهؤلاء الأطفال يبحثون عن ومضة الحقيقة والفهم والبحث عن الأسباب وتقويم المعلومات وسبر أغوارها فضولا، فنجدهم يحلقون دوما بين الواقع والحقيقة للبحث عنها، ويتعمقون في أسئلة التفكير من نوع: كيف؟ لماذا؟ يحدها الاستفسار عن الكون وظواهره والحياة ومكوناتها وماهيتها..!

ثم تأتي سن السادسة والموعد المرهون بالمستقبل بدخول المدرسة والبدء ببرمجة الأذهان تلقينا وحفظا، فيصاب (الإنسان) الصغير حجما والكبير عقلا بردة فعل صدمة قاسية في "سجن" مجازي تتطلبه أنظمة مدارسنا الصارمة، والمناهج، والمعلم، والمقرر الدراسي كمصادر تعليمية فقط حتى يندمج ويتقولب هذا المفهوم القاصر للتعليم ويتكيف معه، وتبقى طرق التدريس وتلبية احتياجات الصفوف الأولية مرحلةً وعمراً ترديدية ببغاوية تشحن الأذهان، وتملأ مستودع الذاكرة المتجهة إلى قولبة العقل نحو اللاتفكير فقط.. وذلك أسفا هو النمط السائد للتعليم لدينا - الذي يحتاج إلى مراجعة وإعادة "تصميم"- ومخرجاته تثبت ذلك منذ دخول المدرسة حتى التخرج في الجامعة.

أمنياتنا الخالصة لكل طلابنا في جميع مراحلهم بتعليم أفضل، وفقهم الله و"أعانهم".