في الوقت الذي تحركت فيه البوارج الأميركية باتجاه البحر الأبيض المتوسط، نتساءل: هل ستقوم أميركا بتوجيه ضربات عسكرية للنظام السوري؟ هل كان استخدام السلاح الكيماوي في ريف دمشق هي القشة التي قصمت ظهر البعير؟ وهل أصبحت أميركا الآن جاهزة، لتولي مسؤولية سورية؟

للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أولا تسليط الضوء لفهم وتفكيك آليات صناعة القرار الأميركي.

لا يستطيع أحد أن ينكر دور أميركا البارز الذي كان يصل إلى حد وصفها بأنها شرطي العالم، ولكن المتابع للشأن الأميركي يدرك ـ بكل وضوح ـ أن ثمة تراجعا للحضور الأميركي في الساحة الدولية، وما لا يستوعبه كثيرون هو ثقل وأولوية ومكانة الشؤون الداخلية، إذ إن الرسائل التي وصلت إلى أوباما من الناخب الأميركي، هي أن الأولوية للشؤون الداخلية، وكان ذلك جليا في المناظرة الانتخابية بينه وبين "رومني" في قضايا الضرائب والتوظيف والتعليم والصحة وقانون الهجرة والبنى التحتية، إضافة إلى انعكسات الأزمة المالية والدين العام الذي وصل تأثيره لأول مرة إلى أن يتطوع أوباما ووزير الدفاع ونائبه بخصم قيمة نصف شهر من رواتبهم، لمصلحة وزارة المالية! وكذلك خصم رواتب نصف شهر للموظفين المدنيين في وزارة الدفاع، ثم هل تعلم بأن "ديترويت" أكبر مدينة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، والمشهورة في صناعة السيارات قد أشهرت إفلاسها؟، إضافة إلى أن الطبقة الوسطى الأميركية ليس لديها الوقت للاهتمام بالشؤون الخارجية؛ إذ وجد آخر استطلاع أجرته مؤسسة "إبسوس" الأسبوع الماضي أن نحو 60% من الأميركيين يعارضون التدخل العسكري في سورية بينما يسانده 9% فقط.

ولا ننسى أن "أوباما" عارض بشراسة الحرب على العراق منذ البداية، فكيف يشن حربا جديدة على سورية؟ ولعل موقفه الرافض حتى لتسليح فصائل منتقاة من المعارضة السورية بأسلحة نوعية تغير من موازين القوى هو خير شاهد على ما نقول.

على المتابعين التأمل في كلام "ريتشارد هاس"، وهو رئيس مجلس العلاقات الخارجية، والذي له تأثيره على صناع القرار في واشنطن، وقد كان مستشارا لبوش الأب في حرب تحرير الكويت، وهو الرجل الثالث في وزارة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس بوش الابن، وكان مسؤولا عن رسم وتخطيط السياسة الخارجية الأميركية، إذ ذكر في كتابه الأخير "السياسة الخارجية (الأميركية) تبدأ من الداخل"، أن التحدي الأكبر أمام أميركا لا يكمن في الكوارث والأزمات الخارجية، بل التهديد الأكبر لأمنها هو في الداخل أولا، فلا يمكن لأميركا أن تقود خارجيا وتمارس دورها الدولي في فض النزاعات الإقليمية قبل أن تعمل على ترتيب بيتها الداخلي، وذكر في توصياته بالسعي نحو الاكتفاء الذاتي من الطاقة، وهو ما تسعى إليه واشنطن اليوم بزيادة إنتاجها من النفط الصخري، مما سيكون له ارتدادات كبيرة على كثير من الدول النفطية.

ونعود للسؤال: إذن لماذا التغيير في الموقف الأميركي؟ هل شعرت بأن مصداقيتها بدأت تتهاوى، وأرادت بذلك أن تسجل موقفا سياسيا للاستهلاك الإعلامي؟

إنني أتصور بأن أميركا ليست جادة تماما في توجيه ضربة عسكرية لسورية سواء كانت خاطفة أو شاملة لعدة أمور:

1- عدم رغبتها في التورط في أتون حرب جديدة.

2- السلاح الكيماوي تسبب في مقتل أكثر من 1200 ضحية لكنها قبل ذلك، قتلت أكثر من مئة ألف، وإذا كانت أميركا لم تتدخل من أجل ذاك الرقم فهل ستتدخل من أجل 1200 قتيل؟

3- الخوف والتوجس من استلام الجماعات المتشددة الحكم بعد سقوط النظام السوري.

4- الخشية من ردود الفعل الروسية والصينية والإيرانية، خاصة أن التجارب أوضحت أن الذي يفوز في المعركة ليس من ينتصر في اليوم الثاني في المعركة، وإنما من يستمر في انتصاره.